المقال رقم 4 من 5 في سلسلة التأريخ في ضوء ما بعد الحداثة

بنت ما بعد الحداثة مفهومها للغة على “ما بعد البنيويّة”، ولكي يتّضح المقصود بما بعد البنيويّة ينبغي أن نبدأ أوّلاً بالبنيويّة. أسس البنيويّة Ferdinand Saussure (فرديناند دي سوسور) المُتخصِّص اللغوي السويسري.

الأساس في البنيويّة هو فكرة “العلامة” [1]، وتتلخّص الفكرة في علاقة العلامة كإشارة [signifier] بالتصوُّر الذهني للأشياء المُشار إليها [signified] [2].

الادّعاء الأساسي للبنيويّة هو أن: نّشاط الإنسان يُمكن أن يُفهم كلغة تتبع قواعد يُمكن أن نُشبّهها بالنّحو.

حتى بداية القرن العشرين، اعتبر دارسوا اللغة أن الكلمات تُشير إلى أشياء بعينها، لذا فالكلمات مُحدَّدة ونهائيّة.

رفض Saussure اعتبار الكلمة هي أصغر وحدة في اللغة، وفضّل استخدام “العلامة” بدلًا منها، لكون “العلامة” كلمة تشمَل الحرف والصّوت، وبالتّالي استبدل كلمة اللغة بكلمة “نظام العلامات”. كل شيء ينقل رسالة، هو: علامة [3].

رفض Saussure كون اللغة مُجرّد نظام يربط الكلمات بالأشياء المُشار إليها، وقال أن كلا الأفكار والعلامات تَنتقل بالتّواصُل.

وضع Saussure المُشار إليه قبل الإشارة، بمعنى أن الصُّورة الذهنيّة المُشار إليها هي التي تُعطي البناء النّحوي والفهم للطّريقة التي نتكلّم بها.

اختلفت هذه القراءة مع ما بعد البنيويّة، التي وضعت الإشارة signifier قبل المُشار إليه signified.

ما نقده Saussure هو طبيعة العلاقة بين الإشارة والمُشار إليه، فبدلًا من وجود علاقة منطقيّة بين كلمة “قطّة” والصّورة الذهنيّة للقطّة، اقترح Saussure أن العلاقة اعتباطيّة [arbitrary] لا يحكُمها المنطق بل يحكُمها اتّفاق مُستخدمي اللغة. فكلمة “قطّة” إن سمعها شخص لأوّل مرّة فلن يُكوِّن منها تصوُّراً ذهنيّاً لما هي القطّة إلّا بعدما يرى القطّة فيربط إشارة اللفظة بالمُشار إليه. هذه العلاقة الاعتباطيّة يُمكن لمُستخدمي اللغة أن يُغيّروها، فقط عليهم أن يتّفقوا على أن تُشير كلمة “قطّة” إلى شيء آخَر.

حتى الآن يُمكن أن نضع أسُس البنيويّة بحسب Saussure في أربعة نقاط: [4]

1- اللغة لا تنحصر في الكلمات ولكنّها تتضمّن كل نظام تواصل يستخدم العلامات.

2- العلامة تنقسم إلى إشارة ومُشار إليه، والبناء [structure] أو المفهوم [concept] (المُشترك بين المُتكلم والمُستمع) يسبِق الإشارة.

3- المُشار إليه عشوائي ولا توجَد علاقة منطقيّة تربطه بالإشارة. كلّ مُشار إليه له إشارة واحدة، ولكن الإشارة لها أكثر من مُشار إليه.

4- كل علامة تأخُذ معناها بكونها جُزء من شبكة من العلامات. في كل علامة صدى لعلامة أخرى سواء بالتّوافُق أو التّناقض.

بإسهام Roland Barthes (رولان بارت) بدأت مرحلة أخرى هي مرحلة ما بعد البنيويّة، حيث عَكَس تصوُّر Saussure عن ترتيب البناء [المفهوم] والإشارة، فقال أن الإشارة تسبق المفهوم، وأن الإشارة تعمل حين توضع وسط شبكة أخرى من الإشارات أو بتعبير بارت: myth [الأسطورة].

الأسطورة عند بارت لا تعني الخُرافة، بل بناء ثقافي يشترك فيه المُتكلم والمُستمِع [5].

استخدم بارت لفظة الأسطورة للتّشديد على أن التّصوُّر المبني على العلامات هو بالضّرورة لا يساوي “الحقيقية”.

لاحظ بارت أيضًا -كما لاحظ Saussure- أن الإشارة قد تُشير إلى أكثر من مُشار إليه إن نُزعت من أسطورة ووُضعت في أُخرى. قيمة تقديم بارت للإشارة على البناء [structure] هي إظهار قدرة الإشارة على تغيير البناء.

فمثلًا: إحدى أكثر العلامات تأثيرًا هي علامة “الله”، يُمكن أن ترى تأثيرها في البناء الفِكري للمؤمن بها والرّافض لها. تتلخّص فكرته في أن العلامات [كعلامة الله والدولة والجمال والعدالة والفوضى والطبقة الاجتماعيّة واللون .. إلخ] تستطيع أن تُغيّر البناء وتُعيد تشكيله، وأحيانًا تستطيع أن تؤسس بناءًا كاملًا، وأيضًا أن تهدم بناءًا كاملًا إن دخلت عليه أو خرجت منه.

إن نظرنا للمُعادلة الرياضيّة 1+2=3، في سياق ما، قد تُشير العلامات [الأرقام] إلى أقلام، في آخَر إلى أشخاص وهكذا، لذلك يجب أن نُفرِّق بين العلامات [الأرقام] وبين ما نقصده بها [المُشار إليه].

في 1+2=3، إن أضفنا العلامة x فأصبحت: 1+2+x+3=x.
علامة جديدة في الطرف الأيمن من المُعادلة تُغيّر الطرف الأيسر بالضّرورة.
علامة واحدة تدخُل إلى البناء اللغوي الذي يُشكِّل الوعي قادرة على تغيير التّصوُّر النّهائي تمامًا.

صكّ البولندي ألفريد كورزيبسكي عبارة: الخريطة ليست هي الأرض [6] للتّعبير عن الهوّة ما بين الإدراك والواقع، ولكنّها صالحة للتّعبير عن العلاقة ما بين الإشارة والمُشار إليه.

في غرفتك يُمكنك فقط أن تمد يدك لتُمسك بهاتفك. لا تحتاج أن تنظُر فأنت تعلم أين وضعته، فوعيك يرسم صورة [خريطة] للواقع المُحيط بك. في منتصف ليلة حارّة استيقظت في غُرفتك المُظلمة ومَدَدت يدك لتجد زُجاجة الماء حيث وضعتها قبل خمس ساعات، شربت الماء وعُدت للنّوم. شيء يحدُث يوميّاً تقريبًا، فأنت تعلم حَاجَتك للماء وتعلم كيف تتغلّب عليها من خلال وضع زُجاجة ماء بالقرب منك، وعقلك يرسم خريطة بأبعاد الغُرفة ومكانك ومكان زُجاجة الماء، الأمر بسيط. بعد عدّة أيّام تكرَّر الأمر، تستيقظ فتمدّ يدك نحو زجاجة المياه، تجاه المكان الذي تُشير إليه خريطة عقلك، فلا تجدها. وُجدت الحاجة، ووُجِدَ توقُّع لإشباعها، ولكن لم يوجَد تحقيق للإشباع. هل ترى خطورة العلامات الآن؟

العلامات ليسَت فقط وسيلة تواصُل، بل ترسم البناء الذي تُدرك من خلاله كلّ شيء، هُنا تكمُن خطورة العلامات المُضلّلة أو تِلك التي تُشير إلى مُشار إليه غير موجود في الواقِع.

ماذا يدفَع الانتحاريّ لتفجير نفسه وقتل المئات سوى علامة تُشير إلى مُكافأة بعد الموت؟ ماذا يدفع الآلاف للاكتئاب سوى علامات ترسم بناء غير مُقارب للواقِع يَنتهي بعدم إشباع للاحتياجات أو التُّوقعات؟

الوعي للعلامات التي تتبنّاها يُساعدك أن تفهم كيف تُفكِّر، أن تُدرك ما هي فرضياتك التي تتبنّاها عن قناعة ودليل وتِلك التي توارثتها من مُحيطك الذي منه تسلّمت البناء اللغوي. أمّا كقارئ فيُساعدك على تقييم ما تقرأ ومن تَقرأ له، وأن تُدرك فرضيّات الكاتِب وتَراتُبيّة مركزيّة العلامات التي يستخدمها.

قُوّة العلامات تتوقّف على الدّور الذي تلعبه في البناء الذي توجَد فيه أو تدخُل عليه. يتقارب بعض العلامات ويتنافر البعض، وبناءًا على هذه العمليّة من التّقارُب والتّنافُر يمكن لعلامة أن تَدخُل على بناء أو أن يلفُظها.

يُشير أغلبنا للمُستقبل بالأمام والماضي بالخلف، إلى الجيّد بالأعلى والسّيئ بالأسفل. الإشارة للزّمن تفترض أن الزّمن مسارٌ كالطّريق، ما عُلم من الطّريق وما مررنا به صار وراءنا، وغير المعلوم هو ما نتحرَّك نحوه. هُنا تتجاذب العلامات التي تصف الزّمن مع تِلك التي تصف طريقًا. أمّا في وصف الجيّد والسيّئ يتقارب وصف السّماء والنّور مع “الأعلى”، ويتقارب وصف السيّء والموت مع الأرض والتُّراب.

السّماء مصدر المطر، السّماء بالأعلى. الأرض ترتبط بالموت لأنّها مكان دفن الموتى. لذا يرتبط الأعلى بالخير والأسفل بالشرّ أو ما هو سيء. تُشير السّماء إلى الاتّساع والأرض إلى الضّيق، لذا نجِد في لُغتنا اليوميّة ربط للسّعادة والحُريّة بالطيران. بعض العلاقات أيضًا تنشأ بالتناقُض، فإن ارتبط الموت بالأرض ارتبطت الحياة بالسّماء، وإن ارتبط المطر بالسّماء ارتبط الجفاف بالأرض. هذا ما دعاه بارت بالأسطورة، ذلك النّظام اللغوي الذي نعيش فيه وبه ويشترك فيه المُتكلِّم والمُستمع.

فكِّر في العبارة الإنجليزيّة: “Time is money”. يترتّب على مُقاربة المال بالوقت استخدام عبارات تصف الزّمن بكونِهِ مادّة تُنفق وتُستهلك وتُدّخر [7].
فمثلًا: نسأل بالإنجليزيّة: “?how do you spend your time”
أو حينما تتجنّب نقاشًا لا ترغبه: “!Don't waste my time”،
أو حينما تُنجز عملاً: “I managed to save an hour”.

[٤] البنيويّة: “العلامة” 1

فكِّر في لغة النّقاش التي نستخدمها جميعًا. حينما تطلُب من شخص أن “يُدافع” عن ادّعاءه تقول ضمنيّاً أن شخصًا آخَر “يُهاجِم” ادعاءه. كثيرًا أيضًا ما نستخدم عبارة “توجَد ثغرة في أطروحتك”، أو “سقطت نظرية فلان”، هذه اللغة الحربيّة تُصوِّر النقاش الفكري كسَاحَة معركة فيها المنتصر والمهزوم، المُهاجم والمدافع، ثغرات تُكتشف وقِلاع تَسقُط. هذه اللغة تخلق كثيرًا من الصِّراع، لذا لا يخلو الكثير من النّقاشات من الحِدّة. ماذا لو كانت لغة الحوار أشبه برقصة الباليه؟ يشترك فيها طرفان بلا خاسر أو فائز، بلا صراع، هل سَتوجَد الحِدَّة؟

هوامش ومصادر:
  1. علم دراسة العلامات: Simiology [🡁]
  2. لاحظ أن المُشار إليه بـ”signified” ليس هو الشيء في جوهره، بل الصّورة الذهنيّة التي يكوّنها الوعي عن الشّيء. [🡁]
  3. Callum Brown, op.cit. 2013, p. 34 [🡁]
  4. ibid. p. 36-37 [🡁]
  5. ibid. p. 39 [🡁]
  6. A map is not the territory, Eliezer Yudkowsky, Rationality from AI to Zombies. Machine Intelligence Research Inistitute, 2015, p. 244[🡁]
  7. G. Lakoff and M. Johnson, Conceptual metaphor in everyday language. The Journal of Philosphy, LXXVII, p. 456 [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: التأريخ في ضوء ما بعد الحداثة[الجزء السابق] 🠼 [٣] الماديّة الجدليّة[الجزء التالي] 🠼 [٥] الذات والفاعل فوق التاريخي
جون إدوارد
[ + مقالات ]