في سنوات الشباب الأولى، قبل نحو نصف قرن وبضع سنوات، خطت قدماي أولى خطواتها في رحاب جامعة القاهرة العريقة، وما زلت أتذكر حالة الانبهار التي تملكتني وظلت ترافقني طيلة سنوات الدراسة الأربعة، زمن مرحلة البكالوريوس، وحتى أصل إلى كلية التجارة، كنت أعبر أمام كليتي الحقوق والآداب وعلى بعد خطوات منهما يقف البرج الذي يحمل ساعة جامعة القاهرة، التي طالمَا انتبهنا إلى رنات أجراسها الرخيمة والمميزة المنقولة عبر أثير الإذاعة المصرية، وهي تحدد التوقيت المحلي لمدينة القاهرة، وعلى يسارها تقبع قاعة الاحتفالات الكبرى العريقة التي شهدت أحداثا تاريخية فارقة في تاريخنا الحديث والمعاصر، ثم نعبر ممرًا خلفها بين أبنية كلية العلوم، يفضي بنا إلى كلية التجارة.
خلف كلية الآداب تقع مكتبة الجامعة التاريخية، وغير بعيد منها تقابلك كلية الاقتصاد والعلوم السياسية الشابة، وقتها، فقد أنشئت بموجب قرار رئيس الجمهورية العربية المتحدة رقم 91 لسنة 1959، وتخرجت أول دفعة فيها عام 1963، كنت كلما مررت أمامها يلح على سؤال وما علاقة العلوم السياسية بالاقتصاد؟
كان سؤالًا ساذجًا أجابت عليه بعمق محاضرات علم الاقتصاد وعلوم الإدارة عبر سنوات كلية التجارة وقتها. وأيقنت بعدها الدور العلمي والعملي والضروري الذي تؤديه كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، الممتدة جذورها إلى كليات التجارة والحقوق والآداب وانعكس هذا على أقسامها التي بدأت بها مشورها، وهي: العلوم السياسية، الاقتصاد، الإحصاء، الإدارة العامة، والحاسب الآلي.
وكان الرعيل الأول من أساتذتها من المتميزين في تلك الكليات، ولهذا استطاعت عبر خريجيها في سنواتها الأولى أن تجد لهم مكانة متقدمة في مفاصل الدولاب السياسي والاقتصادي والدبلوماسي والمصرفي والتشريعي والإعلامي للدولة، وكان لهم دورهم في تأسيس مراكز البحوث والدراسات السياسية والاقتصادية في كبريات المؤسسات الصحفية واجهره المعلومات التي تمد أصاحب القرار وجهات سن وتشريع القوانين، بالتقارير والتحليلات الموضوعية لَمَّا يتعرضوا له من قضايا وإشكاليات داخلية وقومية وعالمية في الداخل والخارج.
جاء التحاقي بالجامعة متزامنًا مع أحداث جسام، تشكلت عقب وبفعل هزيمة يونيو 1967، التي وضعت نقطة في نهاية سطر شغف الشباب بالتجربة الناصرية، ليبدأ سطرًا جديدًا من المواجهة المثخنة بجراح انهيار الحلم، وتشهد الجامعة حراكًا طلابيًا فيمَا يمكن تسميته انتفاضة الطلاب، فبراير 68، التي بدأت من كلية الهندسة، القابعة في مواجهة الحرم الجامعي، لتمتد إلى كليات الحرم التي أشرنا إليها قبلًا، وكانت الشرارة التي فجرت حمم الغضب الطلابي، صدمة الأحكام الهزيلة التي قضت بها المحكمة على قيادات الطيران آنذاك.
كان من أبرز قيادات الطلاب وقتها الصديق أحمد عبد الله رزة، الذي تخرج فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 1973 وحصل لاحقًا على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة كامبريدج بانجلترا 1984، وأصدر العديد من الكتب التي تتناول قضايا الحرية والديمقراطية والعمل السياسي، وقد التقيته قبيل رحيله عام 2006 في ندوة ثقافية عقدها مركز الجزويت الثقافي بالإسكندرية وبدعوة من الأب الراحل وليم سيدهم، المؤسس لدعوة تمصير “لاهوت التحرير”، وحفر هذا اللقاء في ذاكرتي.
كانت مطالب الطلاب في انتفاضتهم؛ حسب البيان الصادر عن اعتصام كُلِّيَّة الهندسة آنذاك:
– الإفراج فورًا عن جميع الطلاب المعتقلين.
– حرية الرأي والصحافة.
– مجلس حر يمارس الحياة النيابية الحقة السليمة (مجلس الأمة).
– إبعاد المخابرات والمباحث عن الجامعات.
– إلغاء القوانين المقيدة للحريات ووقف العمل بها.
– التحقيق الجدي في حادث العمال في حلوان.
– توضيح حقيقة المسألة في قضية الطيران.
– التحقيق في انتهاك حرمة الجامعات واعتداء الشرطة على الطلبة.
ويعلق د. أحمد رزة على هذا البيان بقوله:
“يتضح من ذلك أن ثلاثة من هذه المطالب تدور حول مسألة الديمقراطية في البلاد ككل ، بينما تشير ثلاثة أخرى منها إلى غياب الديمقراطية في الجامعة بوجه خاص، ويركز مطلبان منها فقط على قضية الطيران والأحداث المرتبطة به“.
(أحمد عبد الله رزة، دكتوراه الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة كامبريدج)
وقد تفاعل الرئيس جمال عبد الناصر في تفهم لافت لهذه المطالب -حسب التقارير الإخبارية وقتها- فأمر بإعادة محاكمة الضباط المتهمين بالإهمال، وتشكيل وزارة جديدة كان أغلبها من أساتذة الجامعات (المدنيين) وذلك أول مرة في عهده، وطرح برنامَج 30 مارس، الذي تضمن إصلاحات مستقبلية في نظام الحكم. واستجاب لبعض مطالب الطلاب، فبرغم بقاء الحرس الجامعي داخل الجامعات إلا أنه لم يعد يتدخل مباشرة في النشاط السياسي للطلاب. كما انتشرت مجلات الحائط بكثافة داخل الجامعات المصرية. وصدرت لائحة لاتحاد الطلاب بموجب قرار جمهوري تمخض عنها اتحاد طلابي بلا وصاية من أعضاء هيئة التدريس.
كانت سنوات الجامعة تلك، بكل ما شهدته من أحداث جسام، مرحلة مهمة في تشكيل الوعي الوطني، لي، ولجيلي، عمقت فينا قيم الانتماء لوطن يستحق.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨