من ثقبٍ صغيرٍ -أخطأ فيه العامل الذي قام بتركيب سخّان حمامها الوردي اللون- كنت أراها..
أراها دون أن تراني.. دون أن تشعر بي..
وأنا الذي أشعر بكل ذرات الغبار حينما ترتطم ببتلات زهرة..

بخطى باهتة تدخل حمامها.. ببطء تغلق بابه دون النظر للخلف متحاشية النظر لكل ماضيها من خلفها.. ومن خلف ظهرها، ظلت أناملها الدافئة تتلمّس مقبضه المعدني البارد وكأنما تربت على يديه خَشْيَة أن تغضبه.. دومًا تشعر بالضآلة ولا تقوى على التحدي.. تستند بظهرها على الباب المغلق ترجوه ألا ينفتح من جديد.. كأمة مسبية قد تعلمت الخنوع، وأن التغيير وسيلته الوحيدة هي الصلاة والبكاء والركوع.. تغمض عيناها تخشى أن ترى أمامها شيئًا لا تدركه ومعه تغمض عيناها عن ذلك المجهول في المستقبل.. تفلت من صدرها زفرة عبرت حنجرتها بلا صوت ولسان حالها همس باسترحام:

أرجوك.. لا تدخل معي

تدفع كل ارتعاشاتها في نبضة وحيدة لتخطو خطوتين إلى منتصف الحمام لتستأنس بالبخار الدافئ.. وفي أبخرة الضباب تخلع ملابسها في صراع بين أمان الستر وعريّ الحقيقة.. المجتمع الذي تحياه قايض بالحقيقة في مقابل الستر، فتعلمت عدم مواجهة جسدها عاريًا، وألا تحل ضفائرها وتخلع أثوابها سوى في ضبابية تموّه الحقائق فتعفي من ذنب المواجهة..

على حياء تبدأ في كشف جسدها شيئًا فشيئًا.. ومع سقوط القطعة الأخيرة من ملابسها الداخلية، تسقط معها آخر ارتعاشات التردد والحسم..

تنساب يدها في الضباب لتفتح صنبور الماء الدافئ وكأنها تناجيه في انتظار.. تلامسه فيُسقط قطرتتن، كدمعتين، من مقلة باكية.. تديره فيصدر الصرير كأنين أخير قبل أن يحتضر الصوت في اكتمال دورانه.. وينهمر الماء متدفقًا كدموع صافية تنساب من تائب لتطهّر قلبه على ذنوب لم يقترفها ولم يكن يومًا سببًا فيها..

بنت الجيرانكانت قطرات الماء تسقط من علا لترتطم برأسها في قسوة، وما أن تمسها حتى تنقلب قساوتها نعومة فتسيل أخاديد السلام الدافئ على وجهها.. تنساب الممرات الهادئة على انثناءات الجسد لتبعث فيه الخدر.. تغسل عن جسدها تراب الحياة ومعه تغسل عن الروح شوائب القهر.. ترتخي أطرافها، مستمتعة، مستسلمة للقطرات الحنونة، تربت على الجسد برفق لتعوضه ما فات من تيبّسٍ، وتمحو عن الظهر الآم سياط القدر..

من جديد، تنساب يدها وسط الأبخرة لتمسك بقطعة صابون.. ملقاة بإهمال كأحلامها المهملة..
تنفلت منها منزلقة كأحلامها المتبددة.. تطاردها كما تطارد أحلامها الهاربة..
تنكسر النفس بداخلها متأملة برائحة الألم: لماذا إن امتلكت القدرة على الحلم وسط الضباب، يأبى الحلم ذاته أن تمتلكه..؟

Touch of Creationتنزلق منها مرة أخيرة قافزة للأعلى كأحلامها الواثبة.. تدفع قدميها بقوة لتقفز واثبة خلف الحلم الصاعد.. ترتجف قطرات الماء هاربة من هذا الجسد الواثب الذي قرر فجأة أن يطارد حلمه.. يتوقّف خط الزمن ليسجل لحظة فارقة في التاريخ.. لحظة وثوب الجسد العاري ضد القانون الجاذب للأرض.. مشهد قطرات الماء المتناثرة فزعًا وتخبطًا من هذا الجسد الذي يعلو ضد التيار المتدفق.. لحظة اليد الممدودة تجاه الحلم الآفل بين الضباب.. مشهد قبض الأنامل على الحلم.. لحظة القرار الارتجالي المفاجئ بالتخلي عن دور الفريسة والإيمان بقوة الوثبة من أجل النهش في الحلم الذي يضيع في الضباب..

تُرى.. هل تنجح هذه اللحظة وهذا القرار في الإمساك بتلابيب الحلم؟ أم أنها محاولة أخيرة فاشلة يذهب معها آخر ما تبقى من أمل؟

Victoryمرّة أخرى، ترتجف المياه الراكدة في أرضية الحمام.. تتناثر في هلع مذعورة لتفسح الطريق لساقين تهبطان بثبات وصلابة على الأرض الزلقة.. واليد المرفوعة للسماء والقابضة أناملها على الحلم الممسوك بقوة كانت أبلغ إعلان للنصر المعزز.. لقد تذوقت أخيرًا طعم النجاح حينما آمنت بأنها تستطيع..

أمام هذه الوقفة الشامخة اهتزت ذراتي كما لم أشعر أمام تمثال الحرية الأمريكي الشهير.. وأرهفت السمع استقبالًا لصرخة نصرها تدوي مجلجلة..

لكن،
ما سمعته تعجز كل فنون الأدب عن تصويره في نصوص مكتوبة أو حتى تصوّره في أشد خيالات العقول جنوحًا:

قعدت "تمرش" في بطنها بالصابونة زي ستي لما كانت بتنضف "دكر البط" المدبوح وتدعك صدره بالـ"ردة" علشان ميبقاش زفر.. وصوت دين أمها كان مجلجل في الحمام صارخًا: "مفيش حاجة تيجي كدا ♫ إهدا حبيبي كدا ♬ وإرجع زي زماااااا♪اااااان"

 

… فاصل زمني لالتقاط الأنفاس …

 

إنّه الأدب..

الأدب.. ذلك الفن القادر على تحريك الكلمات لترقص ذاهبة في نزهة صوب الشمس لتعود من رحلتها بعد أن غزلت من خيوط النور ثوبًا يعميك عن رؤية جسد عاري في الحمام الوردي..

ذلك الفن القادر أن يعميك عن رؤية جسد الحقيقة العارية لأنه بالأصل غير معني بالمادة ولا يخضع للحقائق..

هو فنٌ معني بلوحة من الألوان، تُدمج فيها انطلاقة الأحاسيس البيضاء، بهمجية الغرائز الحمراء، بنقد الواقع الأسود، وحكمة الدهر السماوية، فلا يظل هناك شيئًا من الحمام الوردي..

فنٌ لا يخضع إلا لحدود عقلك.. تغويك ريشة الكلمات، فتخلق ذلك الفضول والحيرة والغموض، وتستثمر خيالي كقارئ ليرسم لوحة فريدة لا يراها سواي، وعبر ثقب صنعه صانع بالعمد -مهما أنكر قائلًا أنه صدفة من مجهول- فلا أفيق من غيبوبتي بعد أن تم استدراجي ولا أعود أرى إلا بعيون الأديب، وأخضع دون وعي لسحره وتعاويذه، ولا أشاهد العالم إلا من خلال ثقبه المزعوم.. ثقبه الذي اتسع على عالم كامل فيه كل شيئ، كل شيئ، إلا الحمام الوردي..

تبًا للأدب..!
ألا تبًا للأدب..!!
تبًا، أقولها بحنق المتمرد الثائر..
تباً، أقولها كإعجاب المهزوم أمام حسن خديعته..
بالغبائي.. ما العلاقة بين الحلم و”حتة صابون”! وكيف اقتنعت بأن “ميه الدوش” : تدمع في بكاء، وتمطر كالسماء، وتربت في حنو، وتفزع في هلع؟ وكيف صارت الصابونة الرخيصة بطلة ألهثت أنفاسي في السعي إليها بجنون وضيعت كل هذا الوقت الذي كان يمكن استثماره في تأمل ي لمفاتن جسد عاري في أشد اللحظات خصوصية؟ تبًا لهذا الفن الذي جعلني أخذت أكبر صابونة في رأسي..!

يا لغبائي.. تبًا لي..!

وتبًا لهذا الحمام الوردي..!

ها هي بصقة أخيرة تندفع من فمي لتحمل معها كل حنقي على ذاتي التي أغوتني فيمَا لا يُغوي تاركة ما يستحق الغَوَاية..
بصقة على الوقت الضائع في لوحة العدم التي تحطمت مع “مرش ستي لدكر البط”..
بصقة على لوحة من فسيفساء الخواء الذي تبعثر في انتظار تمثال الحرية وهو يصرخ مغنيًا لنانسي عجرم..
بصقة يرجمها فمي كحجر يجتاز سور شرفتي وتسبح في الفضاء الصامت لا تكترث لضجيج السيارات المسرعة وآلات التنبيه.. لم أعد أسمع من أصوات الكون إلا صوت قذيفة سخطي وهي تشق الهواء منطلقة تجاه فنٍ يسمونه الأدب.. ها أنا أسمع صوت ارتطامها بحائط الحمام الوردي لتخبره عن رأيي في كل حمامات الكون بكل الألوان.. ما أجمله من صوت.. ما أجمل أن تعبّر عن ذاتك في بصقة حاملة رسالة فيها ما يستحقه ذلك الكريه من تقدير.. ما أريح أن تثلج صدر انتقامك بقذف توقيعك كطلقة نارية أردت عدوك صريعًا وكأنما هي دماء موته التي تسيل.. تسيل..
تسيل..
تسيل..
..
لاء..
لاء..
لاااااا..
ماتروحيش تسيلي عند الخرم ده..!
انحرفي عن مسارك أيتها البصقة اللعينة وحطمي قواعد السير الآن..! لا تسيلي باتجاه ذلك الثَّقب في جدار الحمام فتغلقيه على عيوني!! اتركي الثَّقب مفتوحًا فلربما غدًا أشاهد نفس الفتاة تستحم لمرة أخرى لكن دون فنون الأدب وبكل قلة الأدب..! ارجعي للأعلى وتحدي جاذبية الأرض..! أنا من يكتب وأنا من يأمرك أن تصعد روحك الآن..!!

استقريتي ع الثَّقب بالظبط ياختي؟!؟
طيب كملي وانزلي..
كملي سريان وسيلي لتحت أكتر..
كملي سريان بأه مانتي كنتي ماشية كويس..! كملـــــــــــــــــييييي ييييييي.!!!

مفيش فايدة..!

نلتقي بعد ما تكون الغمامة دي نشفت بأه بفعل تجاعيد الزمن الآتي..!
أنا برضو اللي استاهل.. كان لازم المبالغة الدرامية تجرفني كحجر مقذوف حاملًا رسالة عابرة للبلكونات كطلقة الرَّصاص؟
يعني كل الميكانيزم المعقّد ده، وأنسى أطلع الرصاصة الأخيرة من بندقية بمنظار قناصة علشان أضمن أنشن كويس؟
يلعن آدب الخيال العلمي الفاقد للحبكة! والنشان!!

وتلك كانت آخر خطواتي نحو الأدب، وبداية مساري الدائم والمستمر بلا عودة نحو: قلة الأدب.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

باسم الجنوبي
[ + مقالات ]