خلاص الإنسان باختصار هو عودة الحياة إلى ميت لا يقدر على العودة إلى الحياة التي غادرها، وبسبب طول غياب البشرية عن معرفة الله، فإنهم اعتقدوا أن نسمة الحياة التي فيهم وتبقيهم أحياء هي ذاتية فيهم، مع أنّها هي الله الذي هو الحياة ”أنا هو الحياة“. فالسبب أن الله أبقى على الإنسان حيًا جسديًا بالرغم من أنه مات بالروح بعد عصيانه لله في الفردوس، هو لانتظار تدبير الله لخلاص الإنسان ”بظهور الله في الجسد“ في ”ملء الزمان“.
-فإن عودة الإنسان إلى الحياة هي عودة الله الحياة إلى كيان الإنسان مرة أخرى لتدب فيه الحياة من جديد بالجسد والروح. ولأن الله أبقى على الإنسان حيًا بالجسد فترة انتقالية لازمة لإعادة تأهيل الإنسان بواسطة الأنبياء تمهيدً لقبول حياة الله فيه روحيًا، ولأن في نفس الوقت كان الإنسان ميتًا بالروح وفقد القداسة التي تؤهله لقربي الله في الفردوس، لذلك تحتم أن يَطرد الله آدم من الفردوس بعيدًا في هذا العالم خارج فردوس الله.
إن قَبُول حياة الله في الإنسان روحيًا التي هي الأساس لحياته بالجسد، هو باختصار حقيقة التجسد الإلهي، الذي هو سر رجوع القداسة إلى الإنسان التي تؤهله للعيش في مجال الله: ”عظيم هو سر التقوي (اللازمة لرجوعنا إلى الله) الله ظهر في الجسد“ (١تيموثاوس١٦:٣).
فالتجسد الإلهي هو باختصار أن الله أخذ جسدنا الآدمي وحوَّله في كيانه وأقنومه الإلهي وجعله إنسانًا جديدًا هو ”آدم الثاني“، وهو لقب المسيح ابن الله المتجسد. ومن ثمَّة يحوِّل كيان كل أنسان إلى تلك الخليقة الجديدة للبشرية التي تأسست فيه، فتستطيع أن تعود إلى مجال الله في السماء ثانيةً. فإذا فصلنا الإلهي عن الإنساني في المسيح، فلا فائدة من التجسد الإلهي لأننا بذلك نفصل الحياة عن كيان الإنسان، في حين أن الحياة دخلت فيه بالتجسد الإلهي لتحييه بعد أن مات. هذه كانت خطة الشيطان لهدم الخلاص المسيحي أن يشكك البشر في تلك الحقيقة وذلك الحق.
ومن هنا توالت الهرطقات التي تضرب في اتحاد اللاهوت بالناسوت في شخص/ أقنوم الله المتجسد يسوع المسيح لكي تحرم الإنسان من الله، الحياة الذي جاء ليحيي الإنسان الذي مات:
الهرطقة الآريوسية: أنكرت لاهوت المسيح وقالت أنه مخلوق وسيط بين الله والبشر وليس الله ذاته.
الهرطقة الدوسيتية: أنكرت ناسوت المسيح وقالت بأن جسد المسيح كان خيالًا وشبحًا.
الهرطقة الأوطاخية: أنكرت ناسوت المسيح وقالت بتلاشي الجسد في اللاهوت.
هرطقة أبوليناريوس : أنكرت وجود عقل ونفس إنسانية في المسيح المتجسد.
الهرطقة الغنوسية: قالت بالثنائية وبقاء كل كيان مادي بعيد عن الكيان الروحي لأنه غريب عنه. وقالت بالثنائية المنفصلة في شخص المسيح أنه ”ابن الله“ وأنه ”ابن الإنسان“ بدون اتحاد. ومن هنا قالوا بثنائية المسيح والكنيسة وأنكروا أن الكنيسة هي جسد المسيح واحتقروا كل ماهو جسدي (وللأسف هذا شائع في تعاليم بعض قادة كنيستنا الآن).
الهرطقة الدوناتية: نادت بنفس الثنائية المنفصلة في شخص المسيح وفصلوا بين المسيح رأس الكنيسة والكنيسة جسد المسيح. بالتالي أنكروا وحدة شخص المسيح رأسًا وجسدًا. (وللأسف هذا شائع في تعاليم بعض قادة كنيستنا الآن)
الهرطقة النسطورية: الذي أيضا فصل بين اللاهوت والناسوت وقال ”الابن الكلمة هو سيد ورب يسوع المسيح“ مؤكدًا عدم اتحاد اللاهوت بالناسوت في شخص المسيح. لذلك أنكر لقب العذراء أنها ”والدة الإله“ ولكنها فقط والدة يسوع الإنسان وليس المسيح الإله. (وللأسف بعض من هذا التعليم شائع في تعاليم بعض قادة كنيستنا الآن).
ولكن كل هذا تحطم على صخرة الكنيسة المُرشدة بالروح القدس ومن خلال فكر آبائها الكتابي. فإن ثنائية الجسد والروح غائبة تمامًا من العهد الجديد. ونذكر هنا قول ق. كيرلس الكبير ”المسيح الواحد من اثنين لاهوت وناسوت“.
وتجدر الإشارة إلى أنه في القرون الحديثة في الغرب فإن معظم أساتذة اللاهوت والتاريخ ينحدرون من عائلات الطبقة النبيلة وأشراف أوربا، وكانت نظرتهم لليهودية تخلو من الاعتدال، وأحيانًا كانت تعبِّر عن عداء شديد لليهودية. وهكذا ترك أساتذة اللاهوت والتاريخ التراث اليهودي والفكر العبراني السامي الذي ورثه الآباء الرسل الذي كان ينتمي إلى البيئة الروحية لليهودية في فلسطين، وانتبهوا إلى التراث اليوناني الكلاسيكي، أفلاطون وأرسطو وغيرهم من عظماء مفكري الحِقْبَة اليونانية، الذي تميز فكرهم بالثنائية وفصل المادي عن الروحي. وهكذا فسَّر بعض هؤلاء العلماء المسيحية على أساس ما جاء في التراث اليوناني وحده، وحدثت أخطاء تاريخية ولغوية انعكست على الفكر اللاهوتي البروتستانتي بشكل خاص.
ولكن بالتدريج عاد فكر الآباء من جديد يدخل جامعات أوروبا بفضل رهبان الكنيسة الكاثوليكية وتحققهم من صحة كتابات الآباء. وجاءت الثورة الشيوعية في روسيا ببركة غير محسوبة، وهي هجرة بعض لاهوتيِّ الكنيسة الروسية الذين أسسوا معهد القديس سرجيوس بباريس وترجموا كتابات الآباء منذ بداية القرن الـ١٩، وسمع الغرب أول مرة منذ عصر الإصلاح في القرن الـ١٦ صوت اللاهوتيين الأرثوذكس. فانعكس هذا بدوره على طلبة المدارس اللاهوتية البروتستانتية وتولد حوار في إطار الجو العلمي الأكاديمي وفي إطار العلاقات الكنسية… وكانت ثمرة كل هذا هو العودة إلى التراث القديم الذي يبدأ بالعصر الرسولي ولا يتوقف بالمرة بل يستمر في التاريخ البيزنطي حتي القرن الـ١٩.
أما في الشرق العربي فقد اكتفي الكثيرون بالحس الروحي، وهو جيد، ولكننا في حقيقة الأمر لا نعرف عن تراثنا الأرثوذكسي إلا القليل، وما صدر عندنا من ترجمات ليس إلا نقطة من بحر.
لهذا لا نتعجب أن يصدر كثير من التعليم المخالف للتراث المسيحي الآبائي الأرثوذكسي على لسان الكثير من شخصيات كنسية احتكرت الميكروفون والمنبر لتردد ما نقلته الإرساليات من تعاليم العصر الوسيط للكنيسة في أوروبا إلى كنيستنا القبطية. فسمعنا وقرأنا لشخصيات كبيرة بدون ذكر أسماء، تفصل اللاهوت عن الناسوت في شخص المسيح الواحد، وتفصل اتحاد المسيح الرأس بالكنيسة جسده، وتفصل أقنوم الروح القدس عن الإنسان بدعوى سرقة الإنسان لألوهة الله!… إلخ الذي هو في الحقيقية تفريغ لخلاص المسيح للإنسان كما سبق وشرحنا في بداية المقال.
والسُبح لله.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟