"الخمس دقائق الأخيرة قبل وصول البوليس.. فيه مسرحية في الدنيا اسمها كده يا ابني؟!" تمتم "أنيس" بهذا السؤال بعجب وهو يسأل الكاتب الشاب "حازم" المقيم عنده في "البنسيون" عن سر هذا المسمى العجيب الذي اختاره لمسرحيته.
من يتذكر مسلسل “سفر الأحلام” الذي كتبه “وحيد حامد” وأخرجه “سمير سيف” من ثلث قرن، الذي جسد بطله “أنيس” الفنان “محمود مرسي”، وجسد “حازم” الفنان الشاب وقتها القدير حاليًا “صلاح السعدني”، سيتذكر جيدًا جدًا هذا المشهد الرئيس من المسلسل، وسر مسمى مسرحيته العجيب.
في البداية استنكر صلاح السعدني (أو ربما وحيد حامد) على لسان شخصية حازم، تعجب “أنيس” من اسم المسرحية، ثم ما لبث أن أجابه أن أي عمل روائي في العالم لابد أن يرتبط اسمها بمضمونها، وقال إن فكرة أو مضمون مسرحيته التي دفعته لكتابة هذا المسمى العجيب لها، هو أن بطل مسرحيته كاتب شاب ثائر تجرأ وطمح أن يغير بكتابته عقلية المصريين الذين ما زال يعيشون في أسر الماضي، بالذات شخصيتي حاتم الطائي وعنترة بن شداد المتسببين في تخلف الأمة (من وجهة نظر البطل)، في زمن الثورة التكنولوجية!
فطفق بطل مسرحية حازم يكتب مهاجمًا الشخصيات الكبيرة الأسطورية التي تتحكم في أفكار الناس وتوجه تصرفاتهم، مثل شجاعة عنترة وكرم الطائي بدلًا من العيش في الحاضر والتخطيط للمستقبل.
فانكب يكتب ويكتب ويكتب، تارَة أفكارًا ومقترحات وحلولًا لمشاكل مجتمعه، التي تطحنه مشاكله الاقتصادية منذ عقود، وتارة آراء ومعتقدات عن أسباب التخلف الساكنة في التراث، ويقول حازم إن المحيطين بالمؤلف -في مسرحيته- لم يحتملوه وقرروا تحديد إقامته، عقابًا له على محاولاته “الحقيرة” لتشويه التراث الخالد العظيم، وأرسلوا له مخبرًا يفتش في منزله عن أوراقه ويمزقها، فقذف المؤلف بالورق من النافذة، فإذ بالعامة يتعاملون مع الورق على أنه ورق قمامة، فقرر في نهاية الأمر، أن يحتضن أكوام ورقه والقفز من الشرفة بها، وما لبث طبعا أن سقط بها مضجرًا في دمائه، مما دفع الجيران الفضوليين للاتصال بالشرطة.
إلا أنه قبل وصول الشرطة بخمس دقائق، كانت جميع الأوراق تبخرت، إذا اختطفها الناس واحتفظوا بها ليقرأوها بعيدًا عن أعين رجال الشرطة، ليعلموا سر انتحار المؤلف، بعد أن قادهم الفضول لقراءة أفكاره والتأثر بها، في حين لم يجد البوليس سوى جثة مؤلف لا قيمة لها بلا ورق.
تعجب أنيس من الأسلوب وسأل حازم عن فلسفته، هل كانت هذه هي الطريقة والوحيد والمثالية لإيصال الفكرة؟
فأجابه حازم بأن التضحية بالنفس هنا كانت هي الحل، ولم يكن ممكنًا لإيصال الفكرة أو المعنى أو الحل عند المؤلف سوى الدَّم، حتى لو كانت هي دمائه شخصيًا، طالمَا كانت الحرية غائبة والطريق مسدود والإرادة غائبة والناس تعامت وتصاممت عن المعرفة والحركة والتقدم والتغيير.
دومًا كان وحيد حامد ثوريًا، ومبشرًا بالثورات الفكرية والأيديولوجية ولو كانت على ألسنة شخصيات درامية متهمة دومًا بالجنون والطيش، واختار لبطل مسلسله “سفر الأحلام” (أو أحد أبطال المسلسل) وهو حازم -صلاح السعدني- شخصية المؤلف المثقف، الذي بدوره اختار لبطل مسرحيته مهنة التأليف، الذي استطاع التفكير خارج الصندوق، وتحفيز وتشجيع الناس وتغيير دفة حياتهم، إلا أنهم أبو الالتفاف لكلامه بغض النظر عن قيمته أو جدواه، فقرر لفت نظرهم بالقوة وبأي شكل ولو كان الثمن حياته نفسها.
ولا اشك أن وحيد حامد كان يريد ذكر أسماء أكبر بكثير جدًا من “عنترة” و”حاتم الطائي” على لسان “حازم” (صلاح السعدني) في هذا المشهد، إلا أن حسه “الرقابي” كان واثقًا أن الأسماء الحقيقية الموجودة في التراث التي تؤثر في أفكار المصريين، لن يتم السماح له مطلقًا بذكرها، فقرر أن يلعبها على غرار الأديب العظيم “نجيب محفوظ” والحدق يفهم!
الخلاصة..
الغالبية يا صديقي القارئ أضحوا مستعدين لبيع أنفسهم وأبنائهم بل وأعضائهم مقابل امتطاء “التريند”، المجتمع الحالي أصبح كالقطيع الأعمى الذي يأبى الوقوف والالتفاف لنظر أو سماع أي شيء لبحثه أو نقده، فأصبح لزامًا على المبدع والمفكر، حتى الموظف الطموح والعاطل الجائع أن يسعون للفت نظر المجتمع، كي يصل كل منهم لهدفه، أيًا كان قيمة هذا الهدف أو نبله، إلا أن “حازم” يا صديقي وقتها كان لدى بطل مسرحيته آنذاك حلًا وفكرًا واقتراحات حقيقية وكبيرة لإصلاح مصر، في حين الراقصات والطبالين في إعلام وفن عشرينيات هذا القرن ليس لديهم سوى عورتهم وعورات أسرهم للفت نظر المجتمع المتصامم والمتعامي، فقرر بطل المسرحية أن يهدر دمه فداءً لأفكاره، إيمانًا بضرورة التضحية ولو كانت بحياته نفسها لإنقاذ المجتمع وعلاجه ولو كان علاجًا بالصدمة.
ويترك وحيد حامد نهاية مسرحية بطله أو بطل بطله -إن جاز التعبير- النهاية مفتوحة أمام الجَمهور (أو الشعب).
هل سيقرأ؟ هل سيتأثر؟ هل سيتحرك؟ هل سيغير ما بنفسه؟
صديقي..
يكفي المبدع نبلًا أن يعرض فكرته بشرف، وإن لم يحمل في طيات إبداعه حلًا، فمَا بالك لو اقترح أيضا حلًا؟
أعتقد أنه يجب علينا جميعا -بما إننا “كلنا فاسدون” كما قال الكاتب “وجيه أبو ذكري” في سيناريو فيلم “ضد الحكومة”- أن نبادر بعلاج أنفسنا ذاتيًا من هذا الفساد، وأن نبدأ القراءة بتمعن والتأمل والتدبر في حل مشاكلنا النفسية والاجتماعية أولًا، وعلى رأسها محاربة الأفكار التراثية “التخلفية”، ومحاولة التحرك للأمام،
وبأي شكل، قبل أن يضطر أغلبنا من الكتاب لإلقاء نفسه من النوافذ!
وللحديث بقية.. إن كان في العمر بقية.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟