كثير من الفلاسفة في عصرنا، بالذات فلاسفة إيبارشيات شرق القاهرة (مدينة نصر– مصر الجديدة.. الخ.. الخ) تسيطر على ردودهم الجاهزة المعلبة والمقولبة على أسئلة المتعبين وثقيلي الأحمال، بعض الأطر الخشبية العتيقة المسوسة التي لا يألون أي جهد في قذفها في وجوه سائليهم من نوعية "ربنا قادر" و"صلي" و"اطلب" و... و...
كما لو أن خادم الشعب المسيحي هذا هو فعليًا موظف بخدمة عملاء شركة اتصالات لديه ما بين 40 إلى 42 ردًا نمطيًا جاهزًا يجاوب بهم على جميع الأسئلة، أيًا كانت في أي وقت، من أول “افتح الراوتر واقفله”، وحتى “ده عيب ويندوز يا فندم”.
كثير منهم أصبح كمندوب “الكول سنتر” محكومًا بالوقت في تواصله مع “العميل” المنتظر معه على الخط (أو أمام المكتب) كي لا يجور على وقت بقية العملاء الآخرين المنتظرين كالعبيد في غرف الانتظار النارية يتلظون فيها من قيظ شهري يوليو وأغسطس كالفتية الملقون في أتون النار، في حين يكاد يتجمد الكاهن وضيفه من إعصار التكييف المثلج بمكتب وكيل الله، ونفس هذا الكاهن “المتنعم في تكييفه” هو هو الذي يخرج عليك لاحقا بابتسامة برتقالية في إحدى العظات المذاعة إلكترونيًا، ليفتيك وهو يتحدث ببطئه المعهود والمصطنع وهو يضغط على أسنانه “لو اشتكيت من الحر، تبقى ما بتحبش ربنا!”
أرهقت ذهني المكدود كثيرًا في تأمل ومحاولة فك طلاسم حكمة هؤلاء الفقهاء المسيحيين الأرثوذكس في أخر ثلاثة عقود (بالذات من “نجوم” الخدمة الكهنوتية اللامعة اللمعاوية، وأذنابهم) في اقتراح الحلول المفرطة في المثالية والخيالية الشاذة على جميع الناس كما لـ”أنسر ماشين” عتيقة خربة، فلما تأملت في الأمر وجدت أن هذا العته والإفك والضلال جزء لا يتجزّأ أبدًا من ثقافة عربية وربما إفريقية قامت وعاشت على تصدير فلسفة “حب المذلة” وحياكتها مع مبادئ الانهزامية والانسحاق والانبطاح، وتصوير أن المسيحي الحقيقي هو ابن بار لـ”إله الضعفاء”، ابن مضروب بالأحذية بطبعه! في حيواته سواء السياسية والاجتماعية (بل والزوجية أيضًا، وهذا أضعف الإيمان!).
لكن هذا الأسبوع جاءت فكرة المعجزة أو الصدمة أو الطفرة التي قد تحدث قليلًا أو نادرًا على مستوى الأفراد العادية ولو كانت نسبتها واحد في المئة ألف أو حتى الثلاثمائة ألف، لتهز وتزلزل وتسحق وتكنس كل هذا الكلام الاستسلامي “الفارغ” نحو أقرب مستودع نفايات كبير، من أول د. مجدي يعقوب الذي بدوره “رفض” تمامًا منذ نصف قرن الانصياع لفكرة التدجين و”التسليم بالمقسوم” والاكتفاء بالحياة الهادئة التقليدية والعادية “المتوازنة” ومن ثم العمل كجراح قلب كبير في القاهرة كعشرات الآلاف الذين سبقوه ولحقوه، وأصر بقوة شديدة على الأستاذية وفي أعظم ميدان للطب في العالم (بريطانيا العظمى)، مرورًا بمحمد صلاح الذي كان بالفعل يلعب بالمنتخب وقاب قوسين أو أدنى من اللعب للإسماعيلي إلا أن عقلية اللاعب الباحث دائمًا عن الانتصار وعدم العودة للمنزل خائبًا ولا “الرضا بالمبيت مغلوبًا” سواء في نظر الأرض أو السماء، وحتى أخيرٍا معجزات الشفاء الكبيرة والمفاجئة (التي بلا تدريج، بلا “كنا فين وبقينا فين”، و”مش أحسن من امبارح؟”، و”مش أحسن من غيرنا؟”، و”مش أحسن من مفيش؟”) وكل ثرثرة ولغو ومبررات الهائم في جميع ميادين الحياة.
صديقي..
أنا أتفهم جيدًا المفهوم الاستشهادي وترحيب المسيحي المصري وغير المصري به حبًا في إلهه، وتضحيته بحياته ونفسه وممتلكاته في سبيل إيمانه وحبه تمثلًا بإلهه، لكن هذا الفكر في رأيي البسيط في ميادين أخرى بعيدًا عن الجهاد الروحي أمام القوة القاهرة للحكام الوثنيين (أو حتى الإرهابيين العاديين) ليس فكرًا صائبًا، بل على العكس فكرًا مهزومًا، مريضًا بالمازوخية!
لن أقول لك فقط إن إراحة هي أول مِسْمَار في نعش أحلامك، لكنني أقول لك أيضا إن “الرضا” في أي مجال وفي أي موضوع كفيل بسحقك وقتلك حيًا، أتفهم جيدًا عجزك التام وفشلك عن اتباع شغفك وحلمك، وأنها جملة أفهمك بعض “دجالين” التنمية البشرية واستشاريو المبيعات الوهمية بعدم واقعيتها، وأنها للمرفهين فقط، لكن سأردد مقولة فيلسوف اجتماعي “حقيقي” كبير ألا وهو “جورج أورويل” التي تقول:
حين تنفق معاشك بكامله فقط من أجل الطعام ومكان للنوم، في هذه الحالة لا يمكن اعتبار العمل فرصة للتطور الاجتماعي، بل مجرد وسيلة للاستمرار على قيد الحياة، في الحقيقة هذا يسمى عبودية.
(جورج أورويل)
كذلك المرض أو التعب أو “الشلل”، فلعل ما سمعت وقرأت به هذا الأسبوع يعطيك دفعة كبيرة جدًا من الأمل بأن الرضا وانعدام الأمل والطموح والحلم بل وعدم وضع خطة و”لو كانت غير واقعية في بدايتها”، هو أمر صعب ومرفوض ولا يمكن السكوت عليه، قد تكون أول أو أكبر خطوة في خطتك هذه (أن كنت تؤمن أصلا!) هي الصلاة الحقيقية، لكنها ليست صلاة بلا سعي وعمل واجتهاد، وقد تكون أيضا شيئا آخرًا غيرها لا أعلمه (قبل أن تشهر لي أسئلة لما “نجح الملحدين؟” ولماذا نجح البوذيين؟.. الخ.. الخ..).
حتى على مستوى حياتك الروحية، في علاقتك بالله ذاته، الرضا والاكتفاء والاستكانة لن يكونا أبدًا من وسائط ولا وسائل ولا معابر الوصول لمعبر الملكوت أو حتى الجلوس على عتبة الباب الضيق الذي ينتهي به الطريق الكرب!
ومثلما لإلهك خطة لك، اقترح عليك أنت أيضا أن يكون لك خطة معه. فهل لك أصلا أي خطة له معك أو لنفسك مع نفسك؟ (سواء كنت تصدق في العلم “الآني” أو الخرافة؟)، أنا لا أعلم داخليتك ولا خطتك، لكني متيقِّن بأنها لن تنجح مطلقًا إن قامت على “اشتغل المتاح” أو “التسليم بالمقسوم ولا بالرضا في المبيت مغلوبًا!”
وللحديث بقية طالمَا في العمر بقية.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟