اهتم أبى أن يقتني مدفنًا بالجبل الأحمر، بعد استقراره بالقاهرة، ولم يَرُد من يحتاجه يومًا، أول مرة أذهب إلى المدافن كانت في وداع أحد الأقرباء، كنت صبيًا وكان الحزن يلفني، وكان صمت المكان، إلا من عويل المشيعات، يكمل المشهد المُقبض، بقيت أمام المدفن برفقة أخي الأكبر ليغلق الباب.

اقترب منا واحد من العاملين الذين تولوا عملية الدفن، وكان رجلًا قصيرًا بدينًا حافي القدمين، البقشيش يا بهوات!!، صدمني الطلب فانفجرت فيه، معنفًا، جذبني أخي وطيب خاطر الرجل الذي بدا منكسرًا، ونفحه “اللي فيه النصيب” ثم التفت إليّ معاتبًا ولم يتكلم، قلت له “دا حتى لم يبد أية مشاعر حزن أو تأثر، وبيطلب بقشيش كمان.. هي الدنيا جرى فيها إيه؟”.

لم نكن قد ابتعدنا كثيرًا عن الرجل، فإذا به يلحقنا ويقول لي “بص يابني دا شغلي ومصدر رزقي اللي بأدبر من قروشه القليلة احتياجات بيتي وأولادي، وأنا لو حزنت مع كل حالة أكيد لن أكمل يومي من فرط الحزن، وسألحق بمن أدفنهم على أخر النهار بكتيره.. وأردف: “ربنا يحميك ويخليلك والديك وإخواتك”!!!

ليس الاحتياج وحده هو الذي يقفز بالمرء فوق المشاعر، ويبلدها، إنما الاعتياد أيضًا، حين تكون الأيام متشابهة متكررة منمطة، اللي نبات فيه نصبح فيه، وهو أمر يحدث حتى في الأعمال والوظائف الأكثر بريقًا، عندما يغيب الشغف.

مر على هذه الواقعة أكثر من ستة عقود، لا أعرف لماذا تذكرتها اليوم؟

ربما لما تحتشد به منشورات العالم الافتراضي من خناقات تبدو أخلاقية حول الفساد هنا وهناك، الفساد والتقصير وعدم الأمانة، والمظلومية، وهي نفس الشكاوى التي سجلها الفلاح الفصيح وحملتها صلوات المعابد وجدرانها، وشكاوى البسطاء للأولياء والقديسين، وتناولتها دراسات علم الاجتماع، وسجلها عالم الاجتماع الرائد د. سيد عويس في كتاب “رسائل إلى الإمام الشافعي”.

اللافت إننا نشكوها ونمارسها، ندين غيرنا ونبررها لأنفسنا.

وقد يكون تذكرى لها مرده تكرارها بشكل متواتر في دواوين العمل المختلفة، بتنوع من يجلس خلف مكاتبها؛ يؤدون عملهم برتابة تقترب من الآلية وكأنهم روبوت، قد لا يكون بسبب الاحتياج بل الاعتياد، وقد يكون السبب كليهما، ربما!!

هي حالة تصيب طيف غير قليل من الخدام الشباب والكبار أيضًا، الشماس والقس والأسقف، ربما بسبب التنشئة التي عمقت فيهم أن الخدمة هي ترتيب معلومات في موضوع الخدمة، وتسرب الذهنية الرهبانية، للمدنيين منهم، خاصة النماذج الموغلة في النسك التي تحتشد بها كتب السير الرهبانية وكثيرها مفارق لواقع الحياة حتى في قلالي الرهبان، فمَا بالك حياة المدينة والقرية، ليقع الشباب في أزمة الازدواجية، وتباين الحياة في الخدمة وخارجها.

وحين تنبههم إلى ضرورة تطابق ما يقولون مع ما يعيشون، يستغربون بل تستغرقهم الازدواجية أكثر ويحرقون أيام شبابهم في ما يظنون خدمة، حتى لو انتهى الأمر إلى معاداة دوائرهم الحميمة، تأسيسًا على أن أعداء الإنسان أهل بيته، هكذا.

وتتولد حالة ثالثة تضاف للاحتياج والاعتياد وهي الإشباع النفسي للذات التي تتضخم مع المديح والثناء والتقريظ الذي يحاصر الخادم، خاصة مع احترافه توظيف ملكاته في حديثه وخدمته، فتجد الشهرة طريقها إليه حتى في دوائره المحلية، ومع كل هذا وربما نتيجة لكل هذا تتسلل الرتابة والجمود إليه وهو ما ينعكس على حياته وتعاملاته.وقد اختل توازنه -كل في دائرته ومحيطه- في شيزوفرينيا كارثية.

حالة تُصَوِِر لْطَيف العلمانيين (المدنيين) أن مأساتهم ثمن إخلاصهم في خدمتهم ويصلّون أن لا يقيم الله لأهلهم هذه الخطية، لأنهم يفعلون ما لا يعرفون.
فيعتزلون ويصمتون في اللقاءات الأسرية، ويتقاعسون عن مد حبال المودة لهم، فيمَا لا يتوقفون عن خطب ود وخدمة أصدقائهم “في أنصاص الليالي”،
ربما لأنهم ينتشون بإطرائهم ومديحهم لهم هناك في الكورة البعيدة فيمَا تعني الأسرة مسؤوليات وأعباء بلا مردود متوهج كما في الأصدقاء.

هل يفسر هذا لا مبالاة الخدام، بتدرجهم، بخلاص وأبدية مخدوميهم وبلادة ردة فعلهم مع الأكثر حاجة للرعاية حتى لو تسلل من السفينة في هجرة غير شرعية إلى مراكب الموت المتهالكة، فهم في نظرهم “ابن هلاك”. وهم لديهم ما هو أهم، خطط ومعارك ومواءمات وتحالفات.

مازال ذاك الرجل القصير البدين حافي القدمين. يخايلني.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨