"العطاء" كان واحدة من أهم الإشكاليات التي وقفت أمامها في طفولتي، لم أكن أستوعب مثلًا وصية المسيح "كل من سألك فأعطيه"، وكنت أتساءل بعقلية طفل: كيف يمكنني أن أعطي وما لدي قليل؟ وكان مبرري إنه إذا لم أكن أملك الكثير لأمنح منه فلا يطلب مني أحد أن أمنحه ما ليس لدي، كنت أرى أنه يَجِبُ ألاّ أطلب مساعدة مادية من أحد، وهكذا يَجِبُ ألاّ يطلب مني أحد ذلك، إلى أن علمتني أمي وأخي الذي يصغرني بعام أن العطاء لا يحتاج أن يكون لديك الكثير، بل العطاء يحتاج لقلب عنده استعداد أن يمنح مهما كان ما يملك قليل ولا يكفي.
منذ طفولتي كنت عنيدًا لا أغيّر وجهة نظري بسهولة دون الدفاع عنها لأخر نفس، فقد كنت أقاوم كلام أمي وأخي، إلا أنني مع الوقت تعلمت بفضلهما أن أخرج من ذاتي ومن مداري وشرنقتي، وتعلمت أن العطاء يجب أن يكون من القليل الذي أملك، وأن الهدف ليس كما كنت أعتقد في طفولتي في كم سأمنح بل في أن يعبر ما سأمنحه عن حبي واهتمامي بشخص آخر أقول له ببساطة وبدون كلام إنني أهتم لأمره وهو مهم عندي وإنني أفكر فيه.
هنا بدأت أتلاقى مع المسيح في وجهة نظره من جديد، مع الدرس الذي أشار إليه بعطاء المرأة الفقيرة للفلسين باعتبار أنهم أكثر من أكياس النقود التي منحها الأغنياء من فضلاتهم كنوع من الوجاهة وليس هدفها المنح الحقيقي، أما المرأة فربما قد أعطت كل ما تملك، فبدأت أتفهم أنه يجب أن تمنح ما تحب وما تحتاج حتى يكون لعطاءك معنى.
بعد عدة سنوات مررت خلال المرحلة الثانوية مرور الكرام على إيمانويل كانط في منهج الفلسفة، وأتذكر أن المفهوم الذي علق في ذاكرتي خلال شرح المعلم أن كانط يرى أن فعل الخير يجب أن ينبع من القلب دون انتظار لأن يرد مثله، أو أن يتم شكرك عليه أو حتى لكي ترضي الله، أو طمعًا في الفردوس والجنة، فقط تفعل ذلك لأنك تحب أن تفعل.
مع مرور السنوات تغير مفهومي عن العطاء المادي إلى ما هو أعمق، فالعطاء ينبع من القلب، يكون باهتمام حقيقي ومحبة حقيقة، وهنا تعلمت مع القرب من الكلاب، أن العطاء يجب أن يكون بمشاعر حب حقيقية، فهم يفعلون ذلك بمنتهى البساطة، تقترب في الشارع من واحد منهم فيأتي إليك فرحًا، ويقرر ألا يتركك دون أن يمنحك طاقة إيجابية، وأن يعبر لك عن محبة كبيرة، فمَا كنت أعتمد عليه من حجج في طفولتي لأهرب من العطاء بددته الكلاب تمامًا، فلم أعد أنظر إلى ماذا أملك لكي أمنح، بل إني أريد أن أمنح وسأبحث طول الوقت فيمَا معي ومهما كنت في حاجة إليه لأمنح.
تعلمت أن العطاء قد يكون ابتسامة في وجوه الآخرين أو الحديث باحترام للآخرين في المواصلات العامة أو الشارع، قد يكون مساعدة أحدهم في عبور الطريق دون أن يطلب أو تطلب ثم تغادر دون انتظار لكلمة شكر، قد يكون كلمة تشجيع ربما تكون فارقة في حياة من تقدمها له.
إذا أردت أن تمنح ستفعل ذلك مثلما فعل بطرس مع الشخص المُقعد عند باب الهيكل وكان يطلب صدقة فقد أعجبت بتصرف بطرس، فقد ينتظر منك شخص شيئًا ضئيلًا في حين يمكنك أن تقدم له أكثر مما يطلب أو يتخيل.
فَقَالَ بُطْرُسُ: «لَيْسَ لِي فِضَّةٌ وَلاَ ذَهَبٌ، وَلكِنِ الَّذِي لِي فَإِيَّاهُ أُعْطِيكَ: بِاسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ النَّاصِرِيِّ قُمْ وَامْشِ!».
(سفر أعمال الرسل 3: 6)
أخيرًا، أود أن أشير إلى أن هناك فارق بين العطاء بحكمة والعطاء بسذاجة، فالعطاء بحكمة يعني أنك كشخص تعرف ماذا تفعل وماذا تقدم ولمن تقدم، أما العطاء بسذاجة فيعني أنك شخص مستباح وقد تتعرض للاستغلال، وهنا لا أستطيع أن أنصح بأي شيء، لأن هذا يعتمد على خبراتنا وما نواجه من مواقف في الحياة والدروس التي نتعلمها، لكن ما أثق فيه أن العطاء تجاه الحيوانات والطيور والنباتات وكافة الكائنات التي نشاركها الكوكب وأصبحنا نسطو عليهم وعلى مستقبلهم بسبب تصرفاتنا الأنانية كبشر هو قمة الحب والحكمة.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
باحث وكاتب صحفي متابع للشأن الكنسي وشؤون الأقليات.
زميل برنامج زمالة الأقليات- مكتب المفوض السامي لحقوق لإنسان- الأمم المتحدة، جنيف/ ستراسبرج 2023.
زميل برنامج "الصحافة للحوار" مركز الحوار العالمي (كايسيد) لشبونة 2022.