أربع وخمسون عاما مرت من عمري بحلوها ومرها، فيها الكثير من الانتصارات والانكسارات وبها العديد من النجاحات والإخفاقات، ومع كل إشراقه شمس، كان كل يوم يحمل لي أملًا جديدًا ورجاءً جديدًا رغم كل المحن والصعاب.
“إن الحياة مفعمة بالأمل… أجمل البحار تلك التي لم نزرها بعد… أجمل أيامنا تلك التي لم نعشها بعد… أحلى الكلمات هي تلك التي لم نقلها بعد…”
(الشاعر التركي: ناظم حكمت)
كثيرا ما كنت أتذكر قول الشاعر التركي العظيم “ناظم حكمت” الذي كان يبشر بالأمل وهو في سجنه الذي امتد إلى ثمان أعوام، كما أتذكر دائما كلمات المناضل الجنوب أفريقي “نيلسون مانديلا” الذي قضى في السجن ٢٧ عاما بسبب نضاله ضد التفرقة العنصرية. فهو رغم الظلم الذي تعرض له ورغم ظلمة التفرقة العنصرية البغيضة التي عانى بسببها، فإنه عندما احتفل بعيد ميلاده الخامس والثمانين رفض إطفاء الشموع في الحفل قائلا:
“أنني كرست حياتي لإضاءة الشموع، لا لإطفائها”
(نيلسون مانديلا)
والحياة على الرغم من أنها لا تساوي شيئًا، إلا أنه لا شيئ يساوي الحياة. فالمتشائم يتضجر من شوكها، في حين المتفائل يستمتع بعطرها وأريجها رغم شوكها. الحياة حلوة رغم مرارة بعض أيامها، فلنستمتع بها على أي حال. وعلى المرء أن يتذكر دائما أن الدنيا ما هي إلا قوسين: القوس الأول هو المهد، والقوس الثاني هو اللحد، والحكيم هو الذي يحرص دائمًا على أن يضع بين قوسي المهد واللحد كل ماهو حب وخير وجمال ورحمة وتسامح وغفران.
“دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ
إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني”(أمير الشعراء: أحمد شوقي)
الحياة مهما طالت ماهي إلا قصة قصيرة، سرعان ما تنتهي، وماهي إلا بخار يظهر قليلًا ثم يضمحل، لذا قال أمير الشعراء مقولته السابقة، ولذا صديقي أينما تأخذك رحلة الحياة أترك أثرًا لبصماتك الجميلة، فقليلون هم الذين يتركون أثرًا لبصماتهم، وكثيرون هم الذين يتركون أثرًا لحوافرهم!!
ماذا يثقل قلبي عند غروب الشمس؟
أنا أعلم أنها ليست الأعمال التي أعملها طوال النهار بل هي الأشياء التي لم أعملها. الكلمة الحنونة التي كان يجب أن أقولها ولكني لم أقلها. الخطاب الرقيق الذي كان يجب أن أكتبه ولكني لم أكتبه. الزهور التي كان يجب أن أرسلها إلى مريض ولكني لم أرسلها. الحجر الذي لم أرفعه من طريق أخي. النصيحة التي لم أقدمها لأنني كنت مشغولًا. اللمسة الحانية على كتف متألم التي لم ألمسها. الهمسة الرقيقة المشجعة في أذن مضطرب التي لم أهمسها. أعمال الرحمة التي لم تخطر لي ببال. الفرص النادرة التي أتيحت لي على مدى النهار لكي أشارك في أعمال الملائكة.
هذه الأشياء الثمينة التي لم أجد وقتا للتفكير فيها ولم أفعلها تحت وطأة انشغالاتي اليومية هي التي تثقل قلبي في آخر النهار وتضفي على حياتي الكآبة والأسى عند غروب الشمس.(هومر رود هيبر)
وفي رسالة الوداع لجابريل جارسيا ماركيز، الروائي والصحفي والناشر والناشط السياسي الكولومبي، وهو على فراش المرض بعد إصابته بمرض عضال كتب يقول:
لو شاء الله أن يهبني حياة أخرى، فإنني سوف أستثمرها بكل قواي.
سأنام قليلًا، وأحلم كثيرًا، مدركًا أن كل لحظة نغلق فيها أعيننا تعني خسارة ستين ثانية من النور.
سوف أسير فيما يتوقف الآخرون، وسأصحو فيما الكلّ نيام.(جابريل جارسيا ماركيز)
وأنا أبدأ عامي الخامس والخمسين، أتطلع إلى الدخول في المرحلة التي يقول عنها الخبراء إنها «المرحلة الملكية». عندما يصل إليها الإنسان لا يجد نفسه مضطرًا للخوض في أي نقاش أو جدال، ولو خاض فيه لن يحاول أن يثبت لمن يجادله أنه مخطئ، فلسان حاله كأنما يقول له: عش مع نفسك واستمتع بأفكارك. لو كذب عليه أحدهم سيتركه يكذب عليه، وبدل أن يشعره بأنه كشفه، سيستمتع بشكله وهو يكذب مع أنه يعرف الحقيقة. في المرحلة الملكية سيدرك المرء أنه لن يستطيع إصلاح الكون، فالجاهل سيظل على حاله مهما كان مثقفًا، والغبي سيظل غبيًا.
عند الوصول للمرحلة الملكية سيرمى المرء كل مشاكله وهمومه والأشياء التي تضايقه وراء ظهـره وسيكمل حياته… نعم سيفكر في أشياء تضايقه من وقت لآخر ولكنه لا يقلق كثيرًا. سيمشى في الشارع ملكًا؛ مبتسمًا ابتسامة ساخرة هو يرى الناس تتلوّن وتتصارع وتخدع بعضها من أجل أشياء لا لزوم ولا قيمة لها. سيعرف جيدًا أن فرح اليوم لا يدوم وقد يكون مقدمة لحزن الغد والعكس! وسيزداد يقينًا بأن الله يعمل كل الأشياء لخيره. عندما يصل المرء يومًا للمرحلة الملكية لا يسعى لأن يغيّر من نفسه، لأنه أصبح ملكًا على نفسه، واعيًا جدًا، ومطمئنًا ومشبعًا من داخله.
كلما تقدمنا في العمر زاد رشدنا، وأدركنا أننا إذا لبسنا ساعة بـ٣٠٠ جنيه أو ٣٠٠٠ جنيه فستعطينا نفس التوقيت، وإذا امتلكنا «محفظة نقود» سعرها ٣٠ جنيهًا أو ٣٠٠ جنيه فلن يختلف ما في داخلها، وإذا عشنا في مسكن مساحته ٣٠٠ متر أو ٣٠٠٠ متر فإن مستوى الشعور بالوحدة واحد.
وفى النهاية سندرك أن السعادة لا تكون في الأشياء المادية؛ فسواء ركب المرء مقعد الدرجة الأولى أو الدرجة السياحية، فإنه سيصل لوجهته في الوقت المحدد وأن السعادة لا تكون دائمًا في الاقتناء بل قد تكون
أحيانا في الاستغناء والاكتفاء.
في بداية عامي الخامس والخمسين، لا يسعني إلا أن أردد هذا الدعاء الذي يعد من روائع جبران خليل جبران الذي قال فيه:
يَا رَبْ سَاعِدني عَلى أنْ أَقُولَ كَلِمَةَ الحَقْ في وَجهِ الأقويَاء
وأنْ لا أَقول البَاطِلَ لأكسِبْ تَصفيَق الضُعَفاء
يَا رَبْ إذا أعطَيتني مَالاً فَلا تأخذ سَعَادتي
وإذا أعطَيتني قُوةً فَلا تَأخُذ عَقلي
وإذا أعطَيتني نَجَاحاً فَلا تأخذ تَواضُعي
وإذا أعطَيتني تَواضُعاً فَلا تأخذ اِعتِزازي بِكرَامَتي
يَا رَبْ عَلِمني أنْ أُحِبَ النَاس كَما أُحِبُ نَفسي
وَعَلِمني أَنْ أُحاسِبَ نَفسي كَما أُحاسِب النَاس
وعَلِمني أَن التَسَامُح هُوَ أَكبَرُ مَرَاتِب القُوة
وأَنْ حُبَ الانتقام هُوَ أَولُ مَظَاهِرُ الضَعَفْ
يَا رَبْ لا تَدَعني أُصَابُ بِالغُرور إذا نَجَحَتْ.. ولا بِاليَأسِ إذا فَشِلتْ
بَلْ ذَكرني أَن الفَشَلَ هُوَ التَجرُبَة التي تَسبِقُ الَنجَاحْ
يَا رَبْ إذا جَردَتني مِنْ المَال فَاترُكْ ليَ الأمَلْ
وإذا جَرَدتَني مِن النَجَاح فَاترُك ليَ قُوةَ العِنَاد
حتى أتَغَلَبْ عَلى الفَشَلْ
وإذا جَرَدتَني مِنْ نِعمَة الصِحَة فَاترُك لي نِعمَة الإيمَانْ
يَا رَبْ إذا أَسَأَتُ إلى النَاسِ فَأعْطِني شَجَاعَةِ الاعتِذارْ
وإذا أسَاءَ لي النَاس فَأعَطِني شَجاَعَة الغفران(جبران خليل جبران)
وختامًا… على مدار سنوات عمري ال ٥٤ تقابلت مع كثيرين من الأصدقاء والأحباء المخلصين الأوفياء وقليلين ممن خابت فيهم الآمال، ولكنني دائمًا كنت ومازلت أدرب نفسي على تجاوز المحن ونسيان جروح الماضي وإضفاء معاني إيجابية على كل معاناة، فهناك فرصة في كل أزمة وهناك منحة في كل محنة. فعندما تعطيني الحياة سببا لليأس أعطيها ألف سبب للاستمرار فلا شيئ أقوى من الإرادة والعزيمة. وكلما كبرت كلما تعلمت ألا أضع مفتاح سعادتي في جيب أي أحد.
خالص شكري وتقديري لإلهي الذي رعاني، ولأسرتي وأساتذتي ومعلمي وجميع الذين ساهموا في تربيتي ونشأتي وتعليمي وتدريبي وتنميتي جسديًا ونفسيًا وعقليًا وفكريا وروحيًا. كذلك لا يفوتني أن أشكر من تكرموا علي وقذفوني على مدار الرحلة ببعض الأحجار، أو من طعنوني ببعض الطعنات الخلفية. فالأحجار رفعتني لأعلى والطعنات دفعتني للأمام… خالص شكري وعاطر محبتي وتقديري للجميع.
ولنتذكر دائمًا أحبائي إن إضفاء الحياة على السنين يكون أهم كثيرًا من إضافة السنين إلى الحياة.
كل عام وأنتم جميعًا بخير وسلام.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: "التسامح"، الفضيلة الغائبة ٢٠١٠
كتاب: العنف ضد المرأة ٢٠١٧
كتاب: الإصلاح الديني بين الغرب والشرق ٢٠١٨
نحاول تخمين اهتماماتك… ربما يهمك أن تقرأ أيضا:
- يأتون بثياب الحملان، وهم ذئاب خاطفة تستيقظ في كل صباح وهي تشعر أن عدوًا ينام بجوارها، يستلب حياتها، استسلمت للميتة البطيئة المفعمة بالقنوط لأن نفق الخلاص مظلم وطويل بلا نهاية. حاولت كثيرًا أن تجد حلا، أن تشرح لهم أن شريكها في السكن لم يعد ذلك الشخص الذي اتحدت به أمام المذبح منذ عشرة أعوام. لكن، في كل مرة، كان اليأس يكلل مساعيها....