كونوا جميعاً متحدي الرأي، بحسٍّ واحد، ذوي محبةٍ أخوية، مشفقين، لطفاء

(1بط 3: 8)

هذه الآية تحتوي على خمس صفات تصلح أن تكون دليلًا لكيفية تعامل أهل البيت المسيحي مع بعضهم البعض. فيقول القديس للقارئين أن يكونوا:
“(1) متحدي الرأي، (2) بحسٍّ واحد، (3) ذوي محبةٍ أخوية، (4) مشفقين، (5) لطفاء”.

والصفتان الأولى والأخيرة (في اللغة اليونانية) لهما نفس النهاية: phrones، وتختص بأسلوب تفكير الإنسان. والصفتان الثانية والرابعة تختصان بالأحاسيس الداخلية من نحو الآخرين. أما الصفة الوسطى فهي المحبة الأخوية التي كانت موضع اهتمام القديس بطرس بالأكثر.

وقد أوضح القديس بطرس أنه إن لم يكن المسيحيون قادرين أن يشعروا بالشفقة والرحمة تجاه إخوتهم في المسيح، فسيكونون غير قادرين أن يشهدوا بنجاح في عالمٍ معادٍ لهم بقسوة. اسمعه يقول:

غير مجازين عن شرٍّ بشر أو عن شتيمة بشتيمة؛ بل بالعكس مباركين عالمين أنكم لهذا دُعيتم لكي ترثوا بركةً

(1بط 3: 9)

فمن يؤذيكم إن كنتم متمثِّلين بالخير؟ ولكن وإن تألمتم من أجل البر فطوباكم. وأما خوفهم فلا تخافوه ولا تضطربوا؛ بل قدِّسوا الرب الإله في قلوبكم، مستعدين دائماً لمجاوبة كل مَنْ يسألكم عن سبب الرجاء الذي فيكم بوداعةٍ وخوفٍ، ولكم ضمير صالح لكي يكون الذين يشتمون سيرتكم الصالحة في المسيح يخزون في ما يفترون عليكم كفاعلي شر. لأن تألمكم إن شاءت مشيئة الله وأنتم صانعون خيراً أفضل منه وأنتم صانعون شرًّا

(1بط 3: 13-17)

الأمر الذي فيه يستغربون أنكم لستم تركضون معهم إلى فيض هذه الخلاعة عينها مجدِّفين

(1بط 4: 4)

إن عيُيِّرتم باسم المسيح فطوبى لكم لأن روح المجد والله يحلُّ عليكم. أما من جهتهم فيجدَّف عليه. وأما من جهتكم فيمجَّد

(1بط 4: 14)

فقاوموه راسخين في الإيمان عالمين أن نفس هذه الآلام تُجرَى على إخوتكم الذين في العالم

(1بط 5: 9)

وقد أوضح القديس بطرس أيضًا أن جماعة المؤمنين المتحدة بالمحبة، والتي تشفق على الآخرين، تستطيع أن تَصْمِد ضد إساءة العالم؛ ولكن الأخوَّة التي تمزقها التحزبات والأعضاء غير الودعاء والعادمي المشاعر، هذه الأخوة تصبح فريسة سهلة للعدو: (1بط 5: 8).

والكلمة الرائدة في مجموعة الصفات الخمس التي ذكرناها أولاً هي: “الشفقة” (في اليونانية: ευσπλαγχνοι = eusplanchnoi)، وهي تنتمي إلى مجموعة من الكلمات التي أخذت طابعاً إنجيلياً مميَّزاً في العبادة المسيحية.

المعنى في اللغة اليونانية القديمة:

والكلمة splanchna في اللغة اليونانية القديمة، كانت تشير إلى الأحشاء الداخلية لجسم الإنسان (أي القلب والرئتين والكليتين والطحال والكبد، حسب القاموس اللاهوتي للعهد الجديد، الجزء السابع، ص 548). وقد كانت تستخدم أيضاً في اللغة اليونانية الدارجة لتشير إلى مقر الأحاسيس والمشاعر. كما كانت تشير أيضاً إلى ثورة الأحاسيس الإنسانية مثل الغضب الشديد والقلق والشهوة. وبعض الكتَّاب اليونانيين استعملوا الكلمة eusplanchnia لتشير إلى الشجاعة في الحرب. إلا أن الكلمة splanchna استُعملت في الكتابات اليهودية والمسيحية لتشير إلى كيان الإنسان الذي تصدر منه الشفقة والرحمة والتحنن.

فماذا إذاً وراء هذا التحوُّل في المعنى؟

حينما استعمل اليهود والمسيحيون الذين كتبوا باليونانية الكلمة splanchna لتعني “الشفقة”، فلابد أنهم قد تأثروا بالفعل “رَحَم” في اللغة العبرية، ومشتقاته التي تعبِّر عن الأحشاء الداخلية والرَّحم womb، والذي كثيراً ما استُعمِل ليشير إلى الأحاسيس الرقيقة من المحبة واللطف والرحمة والرأفة تجاه الآخرين (انظر تك 43: 30)، أولاً وبالأساس للتعبير عن رحمة وشفقة الله تجاه الشعب اليهودي. فالكلمة رَحِم هي واحدة من عدة كلمات تعبِّر عن خبرة الشعب اليهودي مع الله كإله رحيم مُشفق ومُنعم على الضعفاء والمتألمين (راجع: خر 34: 6، مز 78: 38؛ مز 103: 13؛ إش 63: 7).

الشفقة والتحنن في العهد الجديد:

في العهد الجديد وبعض الكتابات اليهودية (مثل صلاة منسى: 7)، تأخذ هذه الفضيلة معنىً إنجيلياً متميزاً (انظر لو 1: 78). فالقديس يعقوب مثلاً يشير إلى الرب أنه “كثير الرحمة” (يع 5: 11). فخدمة الرب يسوع المسيح استعلنت بالكمال طبيعة رحمة الله ومحبته. فحين أشار ال إلى “أحشاء splanchna يسوع المسيح” (في 1: 8)، فقد كان يُعطي للرحمة معنىً جديداً كليَّةً، فأصبحت الشفقة والرحمة والتحنن من جوهر خدمة الرب يسوع للخطاة والضعفاء والمساكين.

+ فيذكر القديس مرقس الإنجيلي إن الرب يسوع تحنن على الجموع الذين كانوا كخراف هجرها الرعاة، ولذلك علَّمهم كلام الحياة الأبدية (مر 6: 34). وحين جاع الجمع، تحنن عليهم وأطعمهم بطريقة معجزية من خمس خبزات وسمكتين (مر 8: 3-8)، وحين صرخ بعضهم لأجل الرحمة تحنن عليهم وشفاهم (مر 9: 232).

+ كما ذكر القديس متى الإنجيلي إن الرب يسوع تحنن على الجموع وأرسل فعلة للحصاد (مت 9: 35-38)، وشفى أمراضهم (مت 14: 14)، وأطعمهم (مت 15: 32)، ولمس أعين العمي لكي يبصروا (مت 20: 34).

+ والقديس لوقا الإنجيلي يسجِّل أن الرب يسوع تحنن على أرملة نايين الباكية التي فقدت وحيدها (لو 7: 13)، فأوقف الرَّكب وأقام الشاب من الموت.

+ والقديس يوحنا الرسول كتبها واضحة جلية: “وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع، إن كتبت واحدة واحدة، فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة” (يو 21: 25).

ونكمل الحديث الأسبوع القادم.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

برتي المقاري
راهب في دير القديس الأنبا مقار الكبير   [ + مقالات ]