Search
Close this search box.
كانت الحياة في أوروبا في منتصف القرن السابع عشر تسير على وتيرة واحدة، ساد فيها، في ذلك الوقت، أقوالٍ تناقلنها لم تكن على مستوى كافٍ لنمو تلك المجتمعات؛ من ضمنها: "إذا وضعت إحدى الخنافس وسط دائرة من بودرة قرن وحيد القرن، فإنه لن يخرج منها!!". وفي إنجلترا، لندن، واعتراضًا على كثير من هذه الأقوال نشأت جماعة سمَّوا أنفسهم "المدرسة الخفية"، إذ قالوا: لو سمع بها رئيس البلاد  (1599-1658م)، لكان شنقهم واحدًا فواحدًا!! كان من بين هذه الجماعة روبرت بويل مؤسس علم الكيمياء الحديثة، واسحق  مكتشف الجاذبية الأرضية.

في إحدى الأيام اجتمعت الجماعة وأحضر أحدهم بودرة وحيد القرن وآخر أحضر إحدى الخنافس في علبة، واجتمعت الدائرة لترى صدق هذه المقولة! وها هو تقريرهم:

“عملنا دائرة من بودرة وحيد القرن، وفي وسطها وضعنا إحدى الخنافس، ولكنه سرعان ما هرب!!”

وهكذا كانت النتيجة مخيبة لآمال هؤلاء العلماء الشبان، لذلك قالوا:

“لن نقول فيمَا بعد إن قال هكذا، أو أحد القدماء كتب لنا ما كتب؛ بل سوف نصدق فقط ملاحظاتنا الدقيقة التي نراها بأعيننا والأوزان الدقيقة على موازيننا، وسنسمع للإجابات التي تعطيها لنا تجاربنا المعملية وليس لأية إجابات أخرى”.

وهكذا بدأت النبتة الأولى للعلوم الحديثة القائمة على التجارِب المعملية الدقيقة.

ليفنهوك وتجاربه القائمة على دقة المشاهدة

“انظري يا زوجتي العزيزة”، كانت تلك هي أول نظرة ينظر فيها الإنسان إلى كائنات قد خلقها الله، ولكن لم تكن تُرى بالعين المجردة. أما بالنسبة للرجل الهولندي “هوك”، فقد كانت تلك هوايته التي تميَّز بها عن كل من عاش في عصره في القرن السابع عشر!!

فقد عاش حوالي عشرون عامًا (من عمر 20 عامًا وحتى وصل 40 سنة) وهو مفتون بهواية صقل العدسات الصغيرة التي تفتح أمامه رؤية الكائنات الدقيقة، وقد كوَّن له معملًا كبيرًا ممتلئًا من عشرات من أجهزة الميكروسكوب التي يرى بها كل ما يصادفه في الحياة، ليفحصه بدقة ويسجِّل ما رآه. لم يكن يترك الخبز الذي غطى العفن سطحه، يتركه دون أن ينظر إلى ذلك العفن تحت جهازه. ولا حتى عين الأبقار، فقد أخذ إحداها وفحصها تحت الميكروسكوب. وكان يمجد الله على حسن خلقته وجمالها. وكان -بفضل عدساته الدقيقة- كان هو أول من لاحظ حركة الدماء في ذيل السمك!!

وهكذا استمر في هوايته حتى وصلت شهرته إلى في لندن.

ومن هناك تم استدعاؤه. وفعلًا، في يوم 15 نوفمبر عام 1677م ذهب إلى هناك حاملًا الميكروسكوب. وهناك، وضع الجهاز في مكانه وأمام كل أعضاء الجمعية الملكية في لندن، ثم وضع إحدى العينات تحت الميكروسكوب. هناك، تزاحم كل الأعضاء حول هذا الجهاز لكي ينظروا إلى الكائنات الدقيقة التي لم يروها من قبل. وهكذا صار ليفنهوك زميلًا في الجمعية الملكية في إنجلترا، إذ تم تقديم شهادة الزمالة له في عُبْوَة من الفضة مع درع الجمعية الملكية، معتبرين إياه زميلًا لهم, كنتيجة لأبحاثه واكتشافاته الثمينة.

وقد كلَّفت الجمعية أحد أعضائها، وهو دكتور مولينكس، لكي يدرس شخصية ليفنهوك. فعرض مولينكس على ليفنهوك أن يشتري منه أحد الميكروسكوبات، ولكن هوك رفض هذا العرض.

“ولكن أدواتك ممتازة! إنها تعطي صورة أوضح ألف مرة مما نجده عندنا في إنجلترا!”

 (د. مولينكس)

وهكذا رد عليهم ليفنهوك قائلًا: “سوف أخدمكم بقية أيام حياتي”، هكذا كتب لهم وهكذا فعل -فقد كان صادقًا فيمَا يقول- حتى المحادثات التي كانت تدور بينه وبين العلماء الذين كانوا يزورونه؛ ظل يرسلها لهم حتى وفاته في عمر الواحد والتسعين عامًا (سنة 1723م).

وقليلًا قليلًا ازداد استعمال هذه الآلة الجديدة لخدمة العلماء، لتكون النتيجة نمو العلوم الحديثة؛ مثل اكتشاف مواد نافعة للإنسان مثل البنسلين وغيره من المواد التي غيرت من مسار حياة الإنسان ورقيها.

والآن، كيف قدَّم ليوفنهوك اكتشافاته للجمعية الملكية في لندن؟

كان ليفنهوك قد كتب في مذكراته إنه لا يجيد الرسم، لذلك فقد التجأ إلى أحد الرسامين، وكان موهوبًا بدرجة كبيرة، اسمه “” (1632-1675م).

وكان لدى ليفنهوك مئات من العينات النباتية والحيوانية لم يرها الإنسان من قبل، وتحتاج إلى دراسة دقيقة. لذلك فقد أنشأ مجلة علمية يقدِّم فيها لوحات ورسوم دقيقة عن كل ما رآه تحت عدسة الميكروسكوب. فكانت الرسوم الجديرة بالتقدير، واستمرت هكذا حتى عام 1675م حيث تغيَّر أسلوب ورونق هذه الرسوم، مما جعل أحد العلماء في اليابان يؤكد أن ليفنهوك قد التجأ إلى الرسام العالمي يوهانس فيرمير الذي توفي عام 1675م، مما أثر على أسلوب ورونق هذه الرسوم. فإن كانت هذه الرسوم التوضيحية قد استمرت في تقديم المعلومات العلمية الدقيقة إلا أنها لم تكن بنفس الرونق والتنسيق السابق قبل عام 1675م.
وهكذا استمر هذا العالم في تقديم معلوماته التي استقاها من رؤيته الدقيقة، باستعمال هذه الآلة الجديدة التي فتحت عين الإنسان على عالم دقيق من الكائنات التي لم يرها أحد من قبل.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

برتي المقاري
راهب في دير القديس الأنبا مقار الكبير  [ + مقالات ]