«في حوالي الساعة العاشرة من صباح الثلاثاء 7 يناير 1986، وأثناء المرور اليومي للحراس على الرقيب المسجون «سليمان محمد عبد الرحمن خاطر»، المحكوم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة 25 عامًا في القضية رقم 143 /85 جنايات عسكرية، السويس، والمحبوس بمستشفى السجن الحربي للعلاج، وجدوا الرقيب معلقًا من رقبته بمشمع الفراش الخاص به، بالقضبان الحديدية بشباك غرفته بالمستشفى. وبالكشف عليه وُجد أنه قد فارق الحياة»

(نص بيان السجن الحربي عن انتحار المجند “”)

أسطورة سليمان خاطر 1في الثالث من أكتوبر / تشرين الأول 1985، وصل فوج سياحي من خمس عائلات إلى منتجع «رأس برقة» الجبلي، (يطلق عليه البعض “رأس البركة” والبعض الآخر ينطقها “رأس برجة”) بمدينة «نويبع»، بمحافظة جنوب سيناء، والذي يبعد نحو 30 كم من خط الحدود الدولي بين مصر وإسرائيل، والذي أشتُهر بصفته منتجعًا سياحيًا جبليًا مميزًا، يقصده السائحون للتخييم بهدف الاسترخاء والاستجمام وممارسة التسلق، ولا سيما للإسرائيليين الذين استفادوا من سماح مصر للسياح الإسرائيليين بدخول جنوب سيناء، دون تت مسبقة.

هذه المنطقة منذ عام 1986 هي قرية سياحية تحت اسم: قرية بساطة Basata Eco-Lodge.

أسطورة سليمان خاطر 3في الساعة الثانية من ظهر السبت 5 أكتوبر 1985، تولى المجند «سليمان خاطر» نوبة حراسته في كشك عسكري للأمن المركزي بالنقطة المكلف بها مع رفاقه، وفي الرابعة والنصف من عصر نفس اليوم بدأ بعض أعضاء الفوج السياحي تسلق قمة الهضبة التي تطل على المخيم، مرتدين ملابس البحر.

أسطورة سليمان خاطر 5في الخامسة تقريبًا، وعند غروب الشمس أطلق المجند «سليمان خاطر» 49 طلقة دفعة واحدة من سلاحه الآلي؛ ليردي 7 منهم قتلى، رجل مسن وامرأتين و 4 أطفال، وهم القاضي «هامان شيلاك» (نحو 60 عامًا)، وزوجته «إيلينا»، وابنتهما «تزليل» (10 أعوام)، و«أنيتا جريفل» أستاذة الاجتماع بالجامعة العبرية بالقدس، و«ديانا باري» (10 سنوات)، و«عوفري توريل» (13 سنة)، و«أمير باوم» (10 سنوات)، ويصيب آخرين بإصابات. الصورة توضح الطفلة الناجية الوحيدة بعد أن أحاطتها أمها «أنيتا جريفل» بجسدها لحمايتها، وماتت عنها.

«كنت على نقطة مرتفعة من الأرض وأنا ماسك الخدمة ومعايا السلاح… شفت مجموعة من الأجانب ستات وعيال، وتقريبًا راجل، وكانوا طالعين لابسين مايوهات، منها بكيني، ومنها عري، فقلت لهم: ستوب، نو باسينج Stop; No Passing ماوقفوش خالص وعدوا الكشك، وأنا راجل واقف في خدمتي وأؤدي واجبي، وفيه أجهزة ومعدات ما يصحش حد يشوفها، والجبل من أصله ممنوع أي حد يطلع عليه، سواء مصري أو أجنبي، وأنا إيدي كانت محملة على التتك»

«فإيدي لما جت على التتك طلع عدد من الطلقات ما أعرفوش، ولقيت ناس بتجري، منهم واحد وقع… جريوا أمام الطلقات، وأنا ساعتها ما درتش بنفسي، وما عرفتش باعمل إيه، ضربت النار تاني، والا ضربت عليهم تاني… وقفت عامل زي المجنون، ومش داري بنفسي، وبقيت مرة أضحك ومرة أعيط»

(عن التحقيقات مع المجند “سليمان خاطر”)

أثار صوت طلقات الرصاص انتباه رفاقه، فخرجوا مسرعين من كشك الحراسة محاولين منعه، وطبقًا للتحقيقات فإن سليمان لم ينح سلاحه، ويُقال إنه قد قتل أحد زملائه حين حاول منعه من الاستمرار في إطلاق الرصاص، ويُقال أيضًا إن بيان الحادث الأول ذكر تلك الواقعة، ثم أغُفل الحديث عنها لاحقًا عمدًا حيث لم تُذكر في تحقيقات النيابة العسكرية. المؤكد أن «خاطر» حاول الانتحار بإطلاق النار على نفسه:

«حط ماسورة البندقية على صدره، وأنا قلت له: مانتش حاتموت نفسك يا سليمان، لو حتموت نفسك يبقى حرام»

(عن التحقيقات مع المجند الشاهد “علي إبراهيم”)

«أنا حطيت السلاح في صدري، وعايز أضرب نفسي.. وزميلي “علي إبراهيم” شهد بذلك… وأنا عمري ما تخيلت أني ممكن أفكر أن أضرب نفسي بالنار… وأنا كنت هاضرب نفسي بالنار، ولكن “علي” قال ليّ: مش حتضرب نفسك بالنار يا سليمان… لو أنت ضربت نفسك أنا حضرب نفسي بعدك»

(عن التحقيقات مع المجند “سليمان خاطر”)

تم إيداع «خاطر» في السجن الحربي، وصدر قرار جمهوري بتحويله إلى المحاكمة العسكرية؛ بصفته مجندًا في الجيش المصري، وقادت صحف المعارضة حملة من أجل تحويله إلى محكمة الجنايات، بدلًا من المحكمة العسكرية، وأقيمت مؤتمرات وندوات وقدمت بيانات والتماسات إلى رئيس الجمهورية، ولم يتم الاستجابة لها. كذلك طعن محاميه «» في القرار الجمهوري، وتم رفض الطعن.

في التحقيق سأل المحقق عن السبب الذي جعله يطلق النيران على النساء والأطفال، فأنكر قائلًا:

«أنا لم أقتل أطفالًا، ولم أر أطفالًا… كانت الشمس قد غابت، وكان الظلام قد حل، ورأيتهم يصعدون التل حزمة واحدة… لقد كان أصغرهم يقاربني طولًا… هذا ما رأيته»

(عن التحقيقات مع المجند “سليمان خاطر”)

ناقضت إجابته تلك، إجابة سؤال سابق بعلمه بوجود “رجل واحد”، فعاد المحقق وسأله إن كان قد بدر عن هؤلاء الأجانب أي عمل عدائي يجعله يطلق النار عليهم؟ وهل كان يعلم جنسياتهم من أية عبارة قالوها؟ فأجاب خاطر:

«لا أعلم جنسياتهم، وما حدش منهم أظهر عمل عدائي، بس أنا باعتبر أي واحد يخش على النقطة يبقى عمل عدائي»

(عن التحقيقات مع المجند “سليمان خاطر”)

أحد زملاء «خاطر» قال إن الأجانب عندما مروا عليهم قالوا «شالوم»، (“سلام” بالعبرية) مما يؤكد أن «خاطر» قد فهم أنهم إسرائيليون، كما نسي «خاطر» أيضًا أنه صرخ في هيستيريا بعدما اقترف جريمته قائلًا:

اقفلوا الطريق أحسن سيارة تبلغ إسرائيل، وإسرائيل تهجم علينا»

(عن التحقيقات مع المجند “سليمان خاطر”)

الشيخ صلاح أبو إسماعيلاستغل المعارضون لاتفاقية «السلام» وبالأخص الإسلاميون منهم، حادثة راس برقة لصنع أسطورة إعلامية من «سليمان خاطر»، فلقبوه ببطل سيناء وقاهر الإسرائيليين، واعتبره الكثيرون بطلًا ورمزًا لمقاومة التطبيع، وتعاطفت معه قطاعات واسعة من الشعب المصري، وكتب فيه البعض شعرًا.

لم يخل دفاع «خاطر» والمتعاطفين معه من إلقاء اللوم على الضحايا، واتهامهم بالتعري وما شابه، وكأن ارتداء ملابس البحر على الشواطئ: جريمة تستوجب القتل، وقد فسر الشيخ «صلاح أبو إسماعيل» محامي المتهم قتل السياح الإسرائيليين لأنهم “صيّع” على حد تعبيره:

«إنهم لم يبالوا بتحذيراته بعدم المرور، واستمروا، ثم قابلوا تعنيفه لهم بالبصق على العلم المصري، مع سيل من السباب، فثار الجندي لكرامة وطنه المستباح لفظيًا من هؤلاء الصيّع؛ فكانت المذبحة»

(عن تصريحات الشيخ «صلاح أبو إسماعيل»)

في سؤال موجّه إلى زوج شقيقة «خاطر» في لقاء على قناة الجزيرة القطرية، اعتذر عن إطلاق خاطر للرصاص على المصيّفين العزل معللًا: «لأنه كان يحرس جهازًا خطيرًا، ولن يسمح لليهود باختراق الحدود ورؤية الجهاز»، أما بعض المواقع الإسلامية فقد ذهبت لإلقاء اللوم على الضحايا «لأنهم كانوا يمارسون الفحشاء»، أما «خاطر» نفسه، فقد أصر في التحقيق على التأكيد على تعري الضحايا، قائلًا:

«كانوا طالعين لابسين مايوهات منها بكيني ومنها عرى»

«دي منطقة ممنوعة وممنوع أي حد يتواجد فيها، وده أمر، وإلا يبقي خلاص، نسيب الحدود فاضية، وكل اللي تورينا جسمها نعديها»

(عن التحقيقات مع المجند “سليمان خاطر”)

وذلك في إشارة منه إلى شائعة في ذلك الوقت، تقول إن فتاة إسرائيلية قد استطاعت أن تتحايل بالعري على أحد الجنود في سيناء، وتحصل منه على تردد أجهزة الإشارة الخاصة بالأمن المركزي هناك بعد أن أدخلها الشاليه المخصص للوحدة.

أسطورة سليمان خاطر 8تكررت إشارة «خاطر» في التحقيق إلى أهمية وخطورة «جهاز ما» في نقطة الحراسة،  بالرغم من أن طبيعة نقطة الحراسة التي يحرسها «خاطر» ورفاقه، وتدريبهم، ومستوى تحصيلهم العلمي، ورتبهم العسكرية (أعلاهم «خاطر» برتبة رقيب)، وطبيعة المكان نفسه، لهي أضعف من أن تحتوي جهازًا بهذا القدر من الأهمية، فقد كانت النقطة رقم 46 عبارة عن كشك من الخشب مغطى بالصاج والبطاطين، مساحته 5×8 متر، يحتوي على جهاز إشارة، وتحويلة تليفون تتصل بالنقطة الأصلية، وصندوق سلاح توجد به فقط بندقيتان طراز آلي، صناعة مصرية عيار 7.62× 9مم، وخزائن ذخيرة وأمتعة شخصية داخل دواليب الجنود، وعددهم خمسة فقط، ونظرًا لأن «خاطر» كان الأرقي تعليمًا بين الخمسة (حاصل على الثانوية العامة ومنتسب لكلية الحقوق)؛ فقد تولى منصب حكمدار النقطة، أي إن نقطة الحراسة التي كان يتولى «خاطر» حراستها لا تحتوي على أي أسرار تستدعي قتل أطفال بسبب اقترابهم منها بالخطأ.

أسطورة سليمان خاطر 10بتكليف من النيابة العسكرية، عُرض المجند سليمان خاطر على لجنة من ، وجاءت نتيجة الفحص: «أن سليمان مختل نوعًا ما، والسبب أن الظلام كان يحول مخاوفه إلى أشكال أسطورية خرافية مرعبة تجعله يقفز من الفراش في فزع»، وخلصوا إلى أنه: «كان يخاف من الظلام ليلًا، وأن حادث مدرسة بحر البقر أثر عليه»

أكدت شقيقته ذلك في لقاء مع قناة الجزيرة الفضائية، وقالت إن: «سليمان جرى بسرعة لمشاهدة ما حدث، وعاد مذهولًا مما رأى، وظل صامتًا لأسبوع كامل بعد هذه الواقعة، من الصدمة والحزن والذهول»

واسترسل التقرير النفسي قائلًا: «إنه عندما رأى بعض الأشخاص يتقدمون نحوه شعر بالخوف الشديد، ولاسيما أن هذه أول مرة يقترب منه أشخاص في غير أوقات النهار»

أسطورة سليمان خاطر 12أضف إلى ذلك ما وضحته السينما المصرية عن عمليات الشحن النفسي والعاطفي والديني الذي يتم شحن مجندي الأمن المركزي ذوي التعليم المتوسط أو الأميين به، عن الأعداء الذين يتربصون بالوطن وما شابه، مع الضغط النفسي والخوف من العقاب من رؤسائه، ويبدو واضحًا أن أسطورة السائحة الإسرائيلية التي تسللت إلى كشك أحد المجندين، وحصلت على بعض الأسرار العسكرية كانت مسيطرة على عقله كما ذكر في التحقيق، فتملكته حالة من الهستيريا جعلته يرتكب مذبحته تلك.

أسطورة سليمان خاطر 14تمت محاكمة «سليمان خاطر» عسكريًا، وفي 28 ديسمبر لعام 1985، صدر الحكم عليه بالأشغال الشاقة لمدة 25 عامًا، وترحيله إلى السجن الحربي بمدينة نصر بالقاهرة، ومنه إلى مستشفى السجن لطلب معالجته من «البلهارسيا»

في اليوم التاسع لحبسه، وتحديدًا في 7 يناير 1986، عثر الحراس على «سليمان خاطر» معلقًا من رقبته بمشمع الفراش الخاص به بالقضبان الحديدية بشباك غرفته، ونشرت الصحف خبر انتحاره في ظروف غامضة.

محمد عبد الحليم أبو غزالةفي يومي 8، 9 يناير اشتعلت المظاهرات في جامعة الزقازيق وعين شمس والقاهرة، وأحبط الأمن مظاهرة كان من المرتب لها أن تخرج من جامع الأزهر،

في 9 يناير صدر تصريح رسمي للدولة على لسان وزير الدفاع المشير «عبد الحليم أبو غزالة» نافيًا تعرّض «سليمان خاطر» للقتل، ومؤكدًا انتحاره.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

بيشوي القمص
[ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤