المقال رقم 9 من 12 في سلسلة مفيش فايدة
أغلب الظن أن ذلك قد حدث كاستجابة لدعاوي جارتنا العجوز، تلك التي أعتدت أن أفجر كمية من "البمب" دفعة واحدة أمام باب شقتها خلال قيلولة الظهيرة في أيام الطفولة والمراهقة، ويبدو أن العجوز لم تسامحني حتى اليوم بالرغم من كمية الحقن التي غرزتها في جسمها كعلاج لأمراضها الكثيرة، فلا يوجد مبرر أخر يدعو وزارة الصحة أن تلقيني منفرداً في ذلك الجحيم في الوحدة الصحية بقرية "بخانس" التابعة لمركز أبوطشت في محافظة قنا في صعيد مصر، والتي تبعد بعيداً عن بيتي نحو 875 كيلو متر تنفيذاً لأمر التكليف بعد تخرجي من كلية الطب العام الماضي، بينما أغلب دفعتي قد ألتحقوا بوحدات صحية أقرب لم تتعدى أبعدها ساعتين سفر من الإسكندرية، بالكوسة طبعاً، لم أتذمر فتلك مشيئة الله، وامتثلت لأمر التكييف وسافرت لقدري المحتوم!

بعد 3 أيام فقط من وصولي الوحدة، دوى ضجيج وصوت صياح وتكسير بالقرب من الوحدة الصغيرة، أرسلت التمرجي لتقصي الأمر فأتي مسرعاً يصيح:

– نهارنا أسود يا ضاكتور
– خير يا تمرجي الغبرة؟؟
– ولاد “طلعت” الجزار… عيلة كلها لبش شغالين في الجزارة، وهما بلطجية وبتوع خناقات ومشاكل، وكل مرة بيتخانقوا فيها، بتبقى مدبحة، والشغل بيبقي للصبح
– الله يبشرك بالخير

ألتزمت الصمت ودعوت الله في سري أن تمر تلك الخناقة بسلام، وأنا أعلم يقيناً أنه لن يستجاب لدعائي…

مرت ساعة من الزمن قبل أن يقترب الصوت المخيف من الوحدة، تلاها صوت بوابة الوحدة الصحية الخشبية القديمة وهي تنكسر تحت وطأة الجماهير العريضة، فجأة، وبدون مقدمات، أقتحم الوحدة ما يقرب من ثلاثين رجلاً، كلهم بلا استثناء مصابون بإصابات مختلفة ما بين كسور وسحجات وقطوعات في كل أنحاء أجسادهم.

– كله بيعدي…
هكذا تمتمت محاولاً تهدئة أعصابي المضطربة، بلا جدوي.

مرت دقائق قبل يدلف أربعة من مفتولي العضلات داخل الوحدة مروراً من الباب المكسور، يحملون جثة هامدة لأحد أقاربهم، بلا رأس، ثم أسجوها على سرير الاستقبال، دقائق ودخل أخر يحمل الرأس التي تقطر دماً ووضعها بجانب الجثة، نظر الجميع ناحيتي فلم أجب، سألني أحدهم بكل ثقة:

– خير يا دكتور؟؟

لم أصدق أذني، فصحت فيهم:
– خير إيه؟؟ الراجل ميت وشبع موت… انتوا مجانين؟؟

لم أسمع رداً، كل ما سمعته كانت زمجرة عالية تشبه زمجرة قبيلة من الأسود قبل الانقضاض علي فريستها، قبل أن ينقض عليً أقربهم ويقبض على ياقة قميصي الذي لم يعد قميصاً، ثم أنقض الباقون علي من كل حدب وصوب، وأنهال الجميع بالشتيمة، استعداداً للانتقال لمرحلة الضرب،

هتف أكثرهم ذكاءاً ويبدو انه المتعلم الوحيد فيهم قائلاً:
– يعني يا ضاكتور يا حمار أنت، عمرك ما سمعت عن حاجة أسمها زراعة الأعضاء؟؟

وقعت الجملة على مسامعي كطوق نجاة، فأمسكت في تلابيبها وأجبت في عفوية وبدون تفكير:
– ايوه ايوه معاك حق… ممكن نعمله عملية زرع… والله لنزرعله راس والراجل هايبقي كويس.

لم يسمعني أحد وسط الصياح والصوت العالي، لكن بعد الكثير من الصياح سمع أحدهم صوتي فأمر الباقيين بالكف عن الشد والجذب، خلعت ما تبقى من القميص بعدما انخلعت أكمامه وانفلتت كل أزراره، فاعتدلت في وقفتي، وأمرت التمرجي بلهجة أمرة:
– حضر يابني أوضة العمليات بسرعة.

نظر التمرجي ناحيتي نظرة بلهاء غير مصدق، فعاجلته بكل جدية:
– إيه مسمعتش يا حمار أنت؟؟

أجبرته الزمجرة التي بدأت تعلو بالقرب منه أن يتصرف بجدية، سحب الجثة والرأس من أيديهم إلى غرفة العمليات، ودخلت خلفه، وأغلقنا الباب، طلبت منه أن يوصد الباب بالمفتاح، وعندها ألتفت ناحيتي متسائلاّ:
– هانعمل إيه يا ضاكتور في المصيبة ديه ؟؟
– أقلع
– ناعاااااااااااام؟
– زي ما سمعت… أقلع الجلابية اللى لابسها من سكات بدل ما اطلع أقولهم انك مش عايز تساعدني في العملية
– بس يا ضاكتور اللي بتجوله ده عيب وحرام
– ولا كلمة واحدة… أنت تقلع وتسكت خالص

استجاب التمرجي صاغراً، فارتديت ملابسه الريفية، ثم فتحت شباك الغرفة وهممت بالقفز منها، ترجاني ألا اهرب واتركه بمفرده فلم يكترث قلبي، تخيلت ما سيحدث للمسكين بعدما تكتشف قبيلة البرابرة في الخارج هروبي مرتدياً ملابسه لكن يا روح ما بعدك روح، تأملت البرواز الأثري المتهالك الذى كان كان يحمل يوماً ما صورة سعد باشا زغلول ولم يجرؤ احد على أزالتها حتى الآن، قبل أن أقفز وافر هاربا من الصعيد كله بلا عودة، وأترك مهنة الطب بدون رجعة!

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: مفيش فايدة[الجزء السابق] 🠼 إنّهم يعشقونها[الجزء التالي] 🠼 كشري وصاية
بيشوي القمص
[ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤