المقال رقم 10 من 12 في سلسلة مفيش فايدة
منهكاً جائعاً لمحته من بعيد يقف شامخاً، يتحدى الزمن بأدواره الأربعة المكدسة طوال الوقت، سرت نحو قصر أبو طارق للكشري ومشتقاته مغمض العينين، فبالرغم من إنني لست من عشاق الكشري ولا مريديه، لكن لعلمي المسبق إنني إن وصلت المنزل لن أجد طعاماً ساخناً، ولن أقوى على إعداده، هذا إن وصلت أصلاً ولم اسقط صريع الإجهاد والتعب والجوع، لذا فأن أي وجبة تصبح شهية بعد ثمانية عشر ساعة من العمل المتواصل كنائب نساء وتوليد بمستشفى الجلاء للولادة، خصوصاً إن كان سعر الوجبة يتناسب مع الراتب الهزيل الذي تمنحه إيانا وزارة الصحة.

لحسن حظي كان المكان شبه خاوي في تلك الساعة المبكرة من النهار، فاخترت طاولة متطرفة بعيداً عن الصداع، لتجنب الدخول في مناقشات سياسة غبية مع أي جار محتمل على أي منضدة مجاورة، وطلبت طبق كشرى حجم وسط، وانتظرت…

في تلك اللحظة تحديداً ظهر أمين شرطة بزيه الرسمي و هيئته المعتادة، في الأربعينيات من عمره، أصلع وشاربه منتظم، مبعثراً عرقه في كل مكان، وكرشه يتهدل أمامه كسيدة حامل في شهرها السابع. كان باختصار صورة طبق الأصل من “حاتم”، أمين الشرطة، بطل فيلم “هي فوضى”، وياللدهشة، فقد ترك “حاتم” كل الطاولات الفارغة، وأقترب مني ليجلس معي على نفس الطاولة تحديداً بدون سبب مفهوم، بحركة لا إرادية قبضت على هاتفي الخلوي وحافظة نقودي، وأعدتهم إلى مكانهم الطبيعي داخل جيوبي. لاحظ فعلتي فأبتسم قائلاً “سامو عليكو… مح حازم… أمين شرطة في قسم قصر النيل”، تمتمت في سرى “يا محاسن الصدف”.

جاهداً حاولت إخفاء تقززي من رائحة عرقه والتي تشبه رائحة كلب ميت قد أنتن في قبره، والتي انتشرت فور جلوسه، في دائرة قطرها 4 أميال. بادلته التحية، قبل أن يطلب لنفسه بلهجة أمره طاجن مكرونة بالكبدة حجم كبير وطبق أرز بلبن حجم كبير و زجاجة مياه غازية، وجاءت طلباتنا سوياً بعد أقل من دقيقتين. نظرت للنادل نظرة عتاب يعلم معناها جيداً، فبادلني بنظرة انكسار.

بفم ممتلئ حتى أخره بالمكرونة والكبدة، تحدث حازم : “أنا معايا رز بلبن لو عايز تحلى بعد الأكل… أحنا أخوات و طبقنا واحد يعنى”، قهرت نفسى كي لا أمسح قذائف المكرونة المختلطة باللعاب، والتي انهمرت على وجهي كرصاص قناصة الداخلية من بين فكيه قائلاً: “شكراً … أنا كده زي الفل و تمام… أشكرك”، بسماجة متوقعة وإلحاح غريب ولهجة أمرة : “من غير كسوف يا أستاذ… عايزك تحلى مد أيدك”، أجبته وقد بلغ الصبر مداه : “أشكرك مش عايز فعلاً”، أجابني مستدعياً رقة ولطفاً لا يملكهما: “إحنا مش كلنا وحشين على فكرة، فيه ناس مننا معندهاش ضمير ولا رحمة، زينا زي أي شغلانة تاني في الدنيا، منهم لله مبوظين سمعتنا ولاد الوسخة، لكن والله معظمنا ناس زي الفل وولاد ناس وبنتقي ربنا في شغلنا”، أجبته بتودد مصطنع: “طبعاً طبعاً”

للوهلة الأولى لم اصدقه بالطبع، خصوصاً في ظل الأزمة التي نشبت بين وزارة الداخلية ونقابة الأطباء بقيادة د. حسن خيرى، أثر اعتداء أميني شرطة على طبيبين زميلين في مستشفى المطرية، وتزويرهما لتقرير طبي يفيد أن الطبيب هو الذي بادر بالاعتداء عليهما، إلا أن قوته في الإقناع، وربما لهجته الآمرة كانت أقوى منى، ففكرت للحظة في قرارة نفسى، أنه ربما يكون على حق، ربما يكون هو أمين الشرطة الوحيد الذي أقابله في حياته و يسعى جاهداً لإظهار اللطف و الود.

أنهى الطاجن وطبق الرز باللبن بسرعة بينما لا زلت أنا في منتصف طبقي، ثم تبعهما بزجاجة المياه الغازية دفعة واحدة قبل أن يتجشأ بقوة خمسة عشر ريختر، وحياني بفم لا يزال يلوك بعض الطعام وبفكين علاهم الاصفرار بفعل السجائر، قبل أن يتجه نحو الكاشير ويتمتم معه بكلمات غير مسموعة، ثم يلقى نظرة أخيرة نحوى ويحيني ثانية بصوت عالي وينصرف إلى حال سبيله، نظرت إليه من النافذة بينما كان يهم بركوب موتوسيكله بكل وداعة، واعتراني لوهلة هاجس أن بعض أمناء الشرطة ربما كانوا صالحين، حتى لو لم يكونوا صالحين بالمعنى المفهوم، ولا يزالوا أفظاظ الألسن، لكنهم على الأقل ودودين مع الشعب، أنهيت طبقي واتجهت نحو الكاشير.

– حسابك كام يا ريس ؟
– طبق كشرى وسط، و طاجن مكرونة بالكبدة كبير، وطبق رز بلبن كبير، وواحد كولا صاروخ… كله تلاتين يا أستاااذ
– لا حضرتك… أنا طبق كشرى وسط بس
– بس الأمين قال أن الحساب كله عندك

لعنت الكاشير والكشري وأمين الشرطة وعقلي الغبي الذي ظن لحظة أن هؤلاء يمكن أن يخرج منهم أي شخص صالح، ثم أخرجت شخصية البلطجي الذى يحتفظ بها كل أطباء المستشفيات الحكومية لاستخدامها وقت الضرورة من داخلي، حتى أقنعت الكاشير أن الأمين قد نصب عليه هو وحده، وأنى لن أتحمل ولا حساب الأمين ولا غباء الكاشير، خرجت مسرعاً بينما أرتفع ضغطي إلى أقصاه، لمحت صورة متهالكة لاحدهم يرتدى الطربوش، معلقة بإهمال في محل الدراجات الهوائية المقابل لأبو طارق، اقتربت من الصورة فاتضحت معالمها، كانت لطيب الذكر سعد باشا زغلول، وتذكرت كلماته الخالدة “مفيش فايدة”، ثم مضيت في حال سبيلي.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: مفيش فايدة[الجزء السابق] 🠼 خير يا دكتور؟[الجزء التالي] 🠼 سيدة الأوتوبيس الأخضر
بيشوي القمص
[ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤