هل سبق لك أن حاولت التقاط حلم؟ في المدرسة وأثناء جلسات النميمة، غالبًا ما كنت أستمع إلى زميلاتي وهن يشاركوني أحلامهن الحية، بدءًا من اللقاءات الرومانسية إلى السيناريوهات المرعبة. بعضهن اختبرن مذاق قبلات متطايرة على أجسادهن المخدرة في أحضان حبيب أو غريب. أخريات رأين ثعابين تلتف حول أعناقهن لتوقظ لدغاتها غفواتهن المعدودات. وبعضهن وصفن وحوشاً أو أشراراً أردن افتراسهن عبر مطاردات عنيفة مثل أفلام التسعينيات… ومع ذلك، فإن جهودي للبحث عن مثل هذه التجارب أثبتت فشلها وضاعت محاولاتي في البحث عن حلم هباءً. كان ذلك في مراهقتي، إلى حين قرأت وتعرفت على: رؤيا يوحنا.

“رؤيا يوحنا اللاهوتي”، هي واحدة من أكثر الرؤى شهرة في الكتاب المقدس، السفر الأخير في العهد الجديد، وكانت ولا زالت موضوعاً للتأمل والتفسير وتأويلات رجال الدين المسيحي، الذين حاولوا فك رموزها وألغازها بطرق عدة. أحياناً تم ربطها بتنبؤات مستقبلية عن نهاية العالم وشكل الحياة الأخروية، بينما جاءت تفسيرات أخرى تحاول إسقاطها على الواقع، وما نشهده من حوادث، حرب عالمية ثالثة، مجاعات وكوارث تنتهي معها الأيام على الأرض.

انتشرت تلك التأويلات بكثرة، لاسيما في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، واعتبرت كتب تفسير رؤيا يوحنا واحدة من أكثر الكتب شعبية في مكتبات الكنائس والعظات المسيحية، لما تحويه رموزها من تشويق ومعانٍ مثيرة، تستفز القارئ الذي يجد نفسه عاجزاً عن تفسيرها.

ثراء رؤيا يوحنا، وأحلامنا الفقيرة 1تحاول التفاسير المسيحية السائدة التفريق بين الحلم والرؤيا، الأول ما يراه الإنسان خلال النوم العميق، والثانية تأتي في مرحلة وسطى بين الوعي واللاوعي، أو في حال اليقظة. أما مفسرو الأحلام فيفترضون أن الأحلام لا تأتي كلها من الرب، أو ذات هدف روحي، وفي هذا الجانب يتم ذكر أحلام (خطيب العذراء مريم) التي جاءت في الإصحاحين الأول والثاني من “إنجيل متى”، والتي توصف بأنها رسائل أراد الله إيصالها له ليطمئن من جهة مريم العذراء، وليخطره مرة أخرى بالهروب إلى مصر مع المسيح الطفل ومريم العذراء، حذراً من بطش هيرودس الذي أراد قتل الأطفال دون العامين.

لماذا أحلامي فقيرة، وليست مثل التي عند القديسين؟

تراود الأحلام أيضاً للأشخاص غير المؤمنين، ويرى البعض أن الله كرسالة تحذيرية، مثل حلم فرعون، أو أبيمالك ملك جرار، حين أخذ زوجة النبي إبراهيم لنفسه، فحذره الله ليلاً في حلم بإعادة سارة لزوجها. أما الأحلام العادية، مثل تلك التي تعنّ لنا، أي تلك التي ليست من الله، فهي نتاج العقل الباطن (اللاوعي)، والتفكير والأحداث اليومية التي تثبت في العقل بالقراءة أو المعرفة أو السماع، التي قد تخرج كلها بصورة أحلام. مع ذلك، أذكر أن البابا شنودة، البطريرك الراحل، يقول أن الأحلام أو الرؤى كلاهما قد تكون من الله أو ، بحسب مدى مطابقته مع كلام الله أو عدم مطابقته.

هل أنا مريضة؟

أخبرتني إحدى الصديقات أن قلة الأحلام أو انعدامها تعني أنني مريضة، وعليَ طلب مساعدة من مختص نفسي. صديقة أخرى نفت لي هذه الفرضية، لكني توصلتُ بقليل من البحث إلى ضرورة تهيئة نفسي للحلم.

سعيت جاهدة لتدوين بعض ما أتذكره في فترات نومي، أديت بعض الطقوس التي استدعيت فيها أي حلم أو مشهد مُخزن من عقلي الباطن، كانت الصور التي تأتيني ليلاً غائمة، مطاردات غير واضحة، كأنني أركض من شيء ما، صور لا ترتقي لتوصف أنها حلم يمكن قصه على أحد، كل ما تذكرته في مراهقتي بقايا أشكال متناثرة في مخيلتي لا أكثر.

قلة أحلامي لم تكن تؤرقني بقدر ما كانت تؤنبني. في فترة من حياتي ظننت أن الأحلام هي للصديقين والأتقياء، أما الأشرار أمثالي فلا حلم لهم، وما دعم تلك النظرة الدونية للنفس بعض التأملات الروحية، لعلّ من أبرزها ما جاء في إحدى قصائد البابا شنودة قرأت بيتاً يوخز فيه نفسه، ويعتبر نفسه في مرحلة الطفولة الروحية لأنه بلا حلم أو رؤيا:

أنا طفل في حياة الروح لم *** يغتن القلب ولا العقل اغتنى
ليس لي حلم ولا رؤيا ولا *** استمع صوتاً صريحاً معلناً”

(البابا ، قصيدة: “أيها النجم”)

كلما حاولت أن أبحث عن كتب تفسير الأحلام الفردية بنظرة مسيحية عجزت، شحيحة هي، على عكس تلك الكتب التي عند المسلمين، وعلى نقيض سفر الرؤيا، التي تتعدد الكتب والجدل حول تفسيراتها، ومعانيها.

يقول خادم الإنجيل، ميلاد صابر، الخادم بالطائفة الإنجيلية الرسولية والخمسينية، إن:

هذا الجزء من الإنجيل رغم صعوبته، إلا أن مفاتيح فهمه أرسلها الله في الإنجيل نفسه، بعهديه القديم والجديد، ومن يشرد عن فهمه في إطار الإنجيل ككل يجد نفسه تائهاً

(ميلاد صابر، خادم بالكنيسة اﻹنجيلية، الطائفة الخمسينية)

الإصحاح الأول في سفر الرؤيا يقول: “فاكتب ما رأيت، وما هو كائن، وما هو عتيد أن يكون“، ويعلق ميلاد من منطلق إيماني ديني قائلا:

ما يعني أن هذا السفر يحتوي دلائل الماضي، ونبوءات المستقبل، ويحكي حاضرنا أيضاً، لكن تنكشف أسراره للمستنيرين فقط بالروح القدس، والقارئين للكتاب المقدس بعمق وفهم

(ميلاد صابر، خادم بالكنيسة اﻹنجيلية، الطائفة الخمسينية)

ثراء رؤيا يوحنا، وأحلامنا الفقيرة 3فسّر الدارسون المؤمنون مثلاً سقوط النجوم بسقوط الرؤساء والحكام في العديد من الدول، و”الوحش” بالوحش الشرقي، أي روسيا الحالية، بحسب ما قاله ميلاد. واستعرض ميلاد أبرز كتب التفاسير، مثل “تفسير سفر الرؤيا كلمة كلمة” للكاتب رشاد فكري، وهناك كتاب آخر صدر في عهد ، وتم مصادرته، كان يتكلم عن الاتحاد السوفيتي، واسمه “صدى النبوات”. للكاتب حليم إبراهيم أرسناوي

ثراء رؤيا يوحنا، وأحلامنا الفقيرة 5تحدث الكتاب عن النبوءات ككل، وعن توزيع السكان على العالم، وكيف تموت الدول، وبعد فترة من مصادرته طبع 80 ألف نسخة في الأردن، بحسب تصريح ميلاد لنا. هناك كتاب آخر مترجم عن الكاتب بروس أنيستي، واسمه “الأحداث النبوية مرتبة ترتيباً تاريخياً من الاختطاف إلى الحالة الأبدية”، وأيضاً كتاب اسمه “عتبات الأبدية” للكاتب أنور جورجي.

لماذا يعاقبنا الله؟

حضور الأحلام والرؤى واضحة في الإنجيل بعهديه القديم والجديد، إلا أن رؤيا يوحنا اللاهوتي تظل الأكثر رمزية وقوة في حضورها على المستوى الكتابي أو التفسيرات الخاصة بها.

يرى المصري، مدون مثير للجدل على منصة “يوتيوب”، يعرّف نفسه بالباحث في النقد النصي للكتاب المقدس، إنه عند إخراج رؤيا يوحنا من زمنها يكون فهمنا قد حاد عن الصواب، والسبب هو تعدد التفاسير المفرطة لها دوناً عن كتب “العهد الجديد”، إذ ستلاحظ في أي مكتبة مسيحية عشرات التفاسير المختلفة لسفر الرؤيا، كل تفسير يحاول فك طلاسمه بشكل مختلف، والسبب هو إصرار الاعتماد عليه بموقف إيماني معين، وهذا عكس ما تقدمه “الحجة التاريخية” للكتاب.

يقول المصري أن سفر الرؤيا واحد من العديد من الكتب التي تم كتابتها في الأدب اليهودي والأدب المسيحي القديم، وعادة ما يدرسها الأكاديميون محاولين فهمها في ضوء سياقها التاريخي للماضي، وعن طريق فهم الأمور المشتركة بين أدب “الرؤى”، نجد أن جميع كتابات الرائيين اشتركت في عامل رئيسي، هو تقديم رؤيا قصصية تجسد رؤيتهم لنهاية العالم.

وحتى نستوعب رؤيا يوحنا ربما علينا الرجوع إلى ما قبلها، إلى تاريخ بني إسرائيل القديم، لدراسة تطور الفكر اليهودي في تفسيره للأحداث، وكيف تطورت علاقة اليهودي القديم بالله.

أقدم نظرة عالمية في الفكر اليهودي ما يسمى بـ “المعاهدة” أو الاتفاقية، التي جاء منها لفظ “العهد القديم” أو الاتفاقية القديمة، وهي تتلخص في أن الله يحامي عن الإنسان الذي يتبعه، ويدلل أصحاب هذا الفكر القديم بموقف الله الذي أخرجهم من أرض مصر وصار لهم نصيراً، وحفظوا الوصايا التي أعطاهم إياها موسى.

أما مشكلة هذه النظرة أنها لم تتوافق مع الحقيقة والواقع الفكري، فهناك دائماً الكثير من المحن التي أحاطت باليهود، وجعلتهم عاجزين عن فهم وقوعهم في الهزيمة، واحتلالهم من شعوب المنطقة، من الآشوريين- البابليين. كيف يحدث كل هذا وهم في حماية الله؟ لم تتسق نظرتهم الإيمانية مع واقعهم المعاش.

جاءت أفكار نهاية العالم التي امتلأت بها تفسيرات “رؤيا يوحنا”، وعلامات دنو “يوم القيامة” عند المسلمين، مما يسمى “المعاهدة” أو الاتفاقية في العهد القديم، عندما اكتشف بنو إسرائيل أن الله لا يحامي عن الإنسان الذي يتبعه؟ هنا بدأ الفكر اليهودي بنظرة جديدة للعالم، وهي النظرة التي تبناها العديد من الأنبياء منذ القرن الثالث قبل الميلاد، مفادها أن إسرائيل تعاني كل هذه المعاناة لأن الله يعاقبهم على كل مساوئهم، من خلال الشعوب الأخرى، أو المحن مثل المجاعة والحروب، كلها جاءت كعقاب لانحرافهم عن العلاقة مع وصايا الله؛ وهذه النظرة كانت تربط بين عودة بني إسرائيل بالله، الذي بدوره سيحميهم مرة أخرى، ويجدد عهده معهم.

ولكن مرة ثانية تتكرر المشكلة مع هذه النظرة النبوية، التي لم تتصالح هي الأخرى مع الواقع المعاش مع شعب إسرائيل، لأنهم حتى إذا ما تابوا، وندموا، ورجعوا عن أعمالهم الشريرة، ومع تطبيقهم لكل وصايا الله، لم تنته المحن ولم يرفع الله عنهم البلاء.

هذا الفكر تراجع مرة أخرى أمام الواقع، وكان لابد أن يتغير، هنا بدأ الركون على نظرة جديدة وهي “الرؤيا”، وفقها لا يتم اضطهاد إسرائيل كعقاب على خطايا شعبها، وليس لأنهم حادوا عن وصايا الله، ولكن لوجود قوى الشر التي تعلن حربها على الأبرار الذين يسمعون كلام الله ويحفظون وصاياه.

البار إذن يمكن أن يتألم لأنه بار، أو يعاقب لأنه حاد عن البر، تلك النظرتان ما زالتا تتصارعان، سواء في المسيحية أو اليهودية وحتى الإسلام، فهناك البعض يفسر أن الله يعاقب بالابتلاءات، وهناك من يرى أن الله يجرب أو يمتحن البار من خلال أجناد الشر، هنا كان لابد من وجود أدبيات الرؤى، التي تستند على وجود قوى الخير “الله وملائكته”، في مواجهة الشر والظلمة.

رؤيا يوحنا وأحلامي

تفسيرات كثيرة قرأتها واطلعت عليها، تخبرني عن سبب “علمي” لعدم تذكر أحلامي، أحدها سمات الشخصية الواقعية، التي لا تميل إلى التخيل والانغماس في العواطف، ويمكن أن تكون مؤشراً على ما إذا كان الشخص قادراً على تذكر أحلامه.

لم يعد الأمر يمثل لي أزمة روحية على كل حال، لكنني أنجذب دائماً إلى رؤيا يوحنا اللاهوتي، وكنت مغرمة بشراء العديد من التفاسير الشيقة عن فك رموزها، عل ثراءها يعوضني ما يفوتني في أحلامي الشحيحة، التي ما زلت أطاردها، لكن مع فارق إدراكي ألا ذنب لي في بوارها، فبعض النظريات تقول إنه يمكن أن يكون الحلم لدى من لا يتذكرون حقيقياً ومكثفاً داخل الدماغ إلى الدرجة التي يخفيها بعيداً، وتحجب أدمغتنا أحلامنا، أي إن عدم تذكر الحلم لا يعني عدم وجوده، بل وجوده بكثافة، وأنه لا يزال بإمكانه التأثير علينا بشكل كبير.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

مارسيل نظمي
[ + مقالات ]