لا أعرف ما الذي يدفعني يومياً لشراء الفول من عند العربية إياها "المتلقحة" تحت البيت، هل هو غرامي وعشقي للفول منذ أيام الصعلكة والعزوبة، أم هو حنين إلى الماضي، أم متعة الأكل واقفاً في الشارع؟ ثم اكتشفت السبب متأخراً بعدما كادت تلك الساندويتشات الممتلئة بالحصى أن تأتى على معدتي ذات الحس المرهف، أن السبب الحقيقي لاستمراري في الأكل المستمر من عند تلك العربية، بالرغم من تحذيرات أمي، و تهديدات زوجتي، وتنبيهات الدكتور، هو رغبتي الملحة المتكررة في "جر شكل" بتاع الفول واجتذاب أطراف الحديث معه، وحثه على انه "يدلق اللي جواه"، فلا استطيع مقاومة أن "أنغزه" بكلمة "تسخنه"، وهو بدوره لا يستطيع مقاومة إخراج الشحنة العصبية المتراكمة بداخله عن حال البلد، والشهادة لله الراجل، "ما بيصدق" أن يشعر أن احدهم يتعاطف معه ويشاركه همه والحديث عن أحوال البلد، فينطلق كالصاروخ ليروي كل ما في جعبته.
اليوم صباحاً داعبته ساخراً عن زيادة سعر “شقه الفول” (نص الرغيف نصف الممتلئ)، فأجابني بحسرة منفعلاً “يا بيه هو فيه اقل من الفول الناس تتقوت بيه؟ من ساعة واحدة جه واحد سألني بكام ساندويتش الفول قولته الشقة بخمسة، راح بص في الفلوس اللي معاه وحط راسه في الأرض ومشى، بالذمة يرضى مين ده بس؟ منه لله ابن الـ*** وزير الـ***، خرب البلد واكلها والعة، ورجالته بياخدوا مننا إتاوات وعماليين ينهبوا فلوس عمال على بطال، أنت عارف أنا بدفع قد إيه إتاوة لأمين الشرطة ابن الـ*** اللي ماسك المنطقة عشان يسيبني واقف مطرحي؟ خمسين جنيه بحالهم كل طلعة شمس”، ثم اعقب جملته بـ “شخرة” عالية التردد، ثم أردف “هي ديه بلد يا أستاذ يتعاش فيها؟ ولله الواحد بقى خايف يجيب حشيش لحسن يكون متسرطن هو الاخر”، ثم اعقب بـ “شخرة” تالية، تبعها بكلمة اعتراضية من ثلاث حروف،
فنصحته إن يحاول أن يقلل من تكرار “الشخر” حفاظاً على أنفه من الالتهابات، فعاتبني على نصيحتي وأجاب بحزم قائلاً “ما أنا بطلت سجاير يا بيه، بس أكيد مش عشان صحتي، لكن عشان مش قادر على تمنها بعد ما غليت ورفعوا الضرايب عليها، لكن مش معقول ابطل سجاير وابطل شخر… مقدرش يا بيه، وبعدين متطلعنيش بره الموضوع”،
أجبته بسؤال محاولاً أن انسيه موضوع الشخر، خوفاً على جهازه التنفسي وأحباله الصوتية “بس أنت طلعت جامد في السياسة.. عرفت الحاجات ديه كلها منين؟”
أجابني قائلاً “من حكاوي الزباين يا بيه، يبقى الزباين بتاكل وبتقرأ الجرايد في نفس الوقت، والفول والبصل عامل معاهم أحلى شغل، وشوية شوية يحكوا في المواضيع ديه، و أنا ليا ودان بسمع بيها ولسان أتكلم بيه معاهم،
أجبته مداعباً “يا عم انت هاتخوفني منك ولا إيه؟ الوقفة معاك ديه هاتودينا فى داهية”،
أجابني بعد أن اطلق شخرة ع الماشي “ما إحنا كده كده رايحين في داهية، أنا سمعت يا بيه انهم حاطين جهاز “تصمت” (تنصت) في بيت كل بنى ادم مننا، وفي كل عربية، وفي “المكروباظات”، والأوتوبيسات، وحتى في الموبايل اللي حضرتك ماسكه في ايدك من ساعة ما جيت ولا مؤاخذة، أمال أنت فاكر الاوستااز عبوحييم بيجيب التسجيلات بتاعته منين؟”،
حاولت أن افهّمه أن ما يقصده هو جهاز تنصت وليس “تصمت”، لكنه أصر على صحة ما يقول، معللاً أن اسمه جهاز “تصمت” وليس تنصت لأنه يجبر الناس على الصمت عشان “مايتسجلش كلامهم”، ثم أردف قائلاً “دول كمان تلاقيهم حاطين جهاز وسط قدرة الفول ديه اللي حضرتك بتاكل منها، لكن كفاية بقى، الواحد قرف و زهق، ها نفضل ساكتين لحد إمتى؟ ” ثم ختم جملته بشخرة مرة أخرى.
لم أشأ تلك المرة أن أثنيه عن عادته المحببة، التي بلا شك قد صارت بمثابة نوع من الراحة النفسية لديه، لكن ما أخشاه أن يعتاد عليها وتصبح لصيقة بلسانه، و عندما أحييه صباحاً ذات يوم يطلق شخرته المعتادة ثم يرد تحية الصباح.
فجأة انتبهت انه قد صمت وكف عن حديثه، ووجدته يحدق في نقطة خلفي، ثم رفع يده بالتحية قائلاً “اتفضل يا سعادة البيه” (تحية خالصة بدون أي أصوات أنفية)، فنظرت خلفي لأجد أمين الشرطة البدين على موتوسيكله يشير له بيده معنفاً “يالا بسرعة يا بنى ادم فين الطلب بتاعي، هو أنا لسه هاستناك؟”، فعاجله بتاع الفول قائلاً “والنبي الطلب جاهز يا باشا ومستني سيادتك، ربنا يخليك لينا يا احسن باشا في احسن بلد في الدنيا، أنت سيادتك متعرفش أن …”،
عاجله أمين الشرطة بعنف جعله ينتفض قائلاً “أخلص يالا أنت ها تحكيلى قصة حياتك؟ يالا يا روح امك أخلص وهات الساندويتشات”، ثم نظر إلىٌ فوجدني غارق في الضحك، فرمقني بطرف عينه قائلاً “بتضحك على إيه يا أستاذ؟ تحب أجيبلك بنص جنيه زغازيغ؟ ولا تيجى معايا القسم تضحك حبتين كمان؟”،
اعتذرت مبرراً ضحكي بنكتة ألقاها على مسامعي صاحب عربة الفول قبل مجيئه بقليل، ثم نظرت لبتاع الفول متضرعاً إليه، منتظراً إثبات كلامي، فرمقني هو الآخر بطرف عينه، ثم بابتسامة خبيثة تسللت إلى شفتيه رغماً عنه، مؤكداً صحة كلامي، ثم مد يده بالساندويتشات، مناولاً إياها لأمين الشرطة، داعياً له بطول العمر هو والوزير بتاعه والحكومة كلها، دون أن ينتظر ثمن الفول بالطبع.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ ٢٠١٧
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [قيصر جديد] ٢٠١٨
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [صراع العروش] ٢٠٢٢
كتاب: ﻻ أحد يتعلّم من التاريخ [العملية ظافر] ٢٠٢٤