قبل نهاية فبراير الماضي، ألقى مطران سمالوط خطابًا انتقد فيه من يقارن بين البطريرك الراحل الأنبا شنودة الثالث وخليفته البابا تواضروس الثاني. ووصف كلماتهم بأنها مخيبة للآمال. أثار هذا جدلًا واسع النطاق عند أصحاب العقلية الراديكالية المتشددة، واضعًا يده على جرح قديم يتجدد كل حين وآخر. جرح تقسيم الكنيسة بشكل غير معلن إلى مدرستين مختلفتين في الرأي والإدارة.
كلام خايب. الكنيسة لن تدار من القبر
في عظته من على المنبر الكنسي، أكد بفنوتيوس أن الكنيسة لن تُدار من القبر
، وأن لكل رئيس كنسي زمنه، في إشارة إلى عدم توافق الكثير من مواقف البابا شنودة الثالث – رأس الكنيسة الراحل – مع مواقف البطريرك الحالي، الذي لديه رؤية مختلفة.
“لما محبين البابا شنودة ميعجبهمش حاجة في البابا تواضروس، ينشروا على النِت ويقولوا لو كان البابا شنودة عايش مكانش عمل كدا. البابا شنودة كمِّل زمنه، والبابا تواضروس بيدير من رؤيته هو”
“هي الكنيسة هتدار من القبر؟ كل واحد وزمنه. وده بيحصل في الإيبارشيات، ناس خايبة تيجي تقول كلام خايب زي ده لما بننقل كاهن من مكان لمكان”(اﻷنبا بفنوتيوس، مطران سمالوط)
حماة الإيمان ضد التنوير
تزامنت تصريحات مطران سمالوط مع انتقادات صوبتها مجموعة “حُماة الإيمان” نحوه، بسبب سماحه ببيع وتداول كتب اللاهوتي الراحل جورج حبيب بباوي، في معرض نظمته الإيبارشية. إذ يحمل اسم بباوي تاريخًا طويلًا من الصراع مع البابا شنودة الثالث، الذي امتدت فترة حبريته [قيادته للكنيسة] 41 عامًا منذ 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 1971، حتى وفاته في 17 مارس / آذار 2012.
هذه الصدامات نُقلت إلى جيل كامل، لم يطلع معظمه على كتب بباوي، التي حُظرت بموجب قرار كنسي في عهد البابا الراحل، وبات كلّما يُعرف عنه، هو ما نقله البابا شنودة الثالث نفسه في عظات خصصها للرد عليه.
جورج حبيب بباوي… حرمان وإقصاء
عام 2007 صدر قرار من مجمع الأساقفة برئاسة البابا الراحل الأنبا شنودة الثالث بحرمان بباوي من دون محاكمة قانونية، وهذا يمنع بموجبه الشخص المحروم من أي عمل كنسي أو روحاني، ويتم إقصاؤه تلقائيًا من الشراكة مع الجماعة الكنسية.
لازم هذا الإقصاء حظر تداول وبيع كتب بباوي في مكتبات الكنائس الأرثوذكسية طوال فترة حبرية البابا شنودة الثالث. فما الذي خلفته قطيعة الباحث اللاهوتي على جيل الكنيسة الحالي؟ وهل الكنيسة لا تحكم من القبر أم تطل خلافات الماضي كل فترة على مستقبل بيت الرب وحاضره؟
صداقة وصراع
“المسألة بدأت مع جورج حبيب بباوي حين كتب مقالاً في مجلة روز اليوسف بعناوين مثيرة، وأسلوب لا يقبله أي قبطي”
(البابا شنودة الثالث، محاضرة بعنوان: “الرد على أفكار جورج حبيب بباوي”، 2007)
فنّد البابا شنودة في محاضرته أسباب الخلاف، منها رأي بباوي في حركة الإصلاح الديني في أوروبا عام 1546 بقيادة “مارتن لوثر” والتي نتجت عنها البروتستانتية اللوثرية، إذ رأى بباوي أنها “حركة تنوير” في حين يراها الأصوليون هرطقة وتجديفًا، فضلًا عن دعوته إلى ضرورة إعلان الإنسان أفكاره من دون الخضوع أو الخوف من سلطة دينية.
وضّح البابا شنودة الثالث في عظاته الموجودة في مكتبات الكنائس أزمته مع أفكار بباوي بشيء من التفصيل:
“كان يُقلق الطلبة بشكوك كثيرة وبلغة بذيئة لا يصح لإكليريكي أن يتكلم بها مع طالب”
“يقول إن الإكليركيين جماجم بلا أمخاخ. وينكر الصيام الكبير ويقول «أنا لا أؤمن بصيام الفول المدمس، وجدت صيام العقل أفضل»”(البابا شنودة الثالث، محاضرة بعنوان: “الرد على أفكار جورج حبيب بباوي”، 2007)
في كتابه “الجلاد والبريء: البابا شنودة وجراح جورج حبيب بباوي”، لخص الكاتب في الشؤون القبطية “روبير الفارس” نتائج النزاع بين الطرفين بحسب ما ورد على لسان البابا شنودة الثالث، الذي رأي أن «اللاهوتي جورج حبيب بباوي يقدم تعاليم مخالفة»، أسفر عنها منع بباوي من التدريس في الكلية الإكليريكية بالقاهرة وفروعها طوال الثمانينات، ثم أُقصي عقب ذلك عن الكنيسة القبطية بموجب قرار المجمع المقدس في جلسة طارئة في 21 فبراير/ شباط 2007، قضى بعزل بباوي من الكنيسة.
كتب محظورة كالمخدرات
ظلت كتابات جورج حبيب بباوي قيد الحظر في مكتبات الكنيسة الأرثوذكسية، طوال حبرية البابا شنودة الثالث، وكان الحصول على أحدها في عصر ما قبل الإنترنت بمثابة مغامرة يجب عدم الإفصاح عن سريتها.
كان عندي فضول لقراءة كتب جورج حبيب بباوي والقمص متى المسكين، وهو اسم بارز في الكنيسة وكان على خلاف فكري مع البابا شنودة. لم تكن كتبهما متاحة عبر الإنترنت، ولا تباع بسهولة في مكتبات ومعارض الكنيسة.
صارحت أبونا ميخائيل برغبتي في الاطلاع على كتب متى المسكين، وجورج حبيب فشجعني على قراءتها ومناقشتها معه، ولكن مع الحذر من التعرض لوشاية أحد عند الأسقف الأكثر قسوة وقتها الأنبا بيشوي مطران دمياط، لئلا يطردني من الخدمة.
كان تداول كتب بباوي والأب متى المسكين كالمخدرات، تنتقل بين الشباب والفتيات في سرية تامة، لئلا «نلبس الجلابية» وهو مصطلح متداول يعني أننا سنُطرد من الخدمة في الكنيسة كعقاب أدبي.(مايكل بشاي، 39 عاماً، خادم متطوع بكنائس مصر الجديدة، يحكي شهادته في بداية العشرين من عمره وأثناء قيادة الكاهن الراحل ميخائيل إبراهيم بكنيسة مارجرجس والأنبا ابرآم)
بدأت التساؤلات تدور في عقل سالي فريد، 42 عامًا، وهي في الخدمة بكنيسة القديس مار مرقس الرسول بمنطقة شبرا، حول أسباب منع ومصادرة كتب بباوي في الكنيسة وهو العلامة اللاهوتي الذي لن يتكرر، بحسب قولها.
كتب بباوي في معرض سمالوط
سمعت الكثير من الحكايات عن الأنبا بيشوي، أسقف دمياط الراحل والملقب بمثلث الرحمات، والرجل الثاني بعد البابا شنودة الثالث، وعن عقوباته التي ينزلها بمن يعرف عنه أنه يرنم ترنيمة إنجيلية، فكيف يكون العقاب لمن يتداول كتب غير مرضٍ عنها.
كم من قيادات لخدمات ناجحة، ومؤسسي اجتماعات روحية، طُردوا من الكنيسة في شبرا أو في أي كنيسة أخرى بمجرد عظات استشهدوا فيها بالأب متى المسكين أو بباوي.
أخبار المطرودين من أي كنيسة كانت تنتشر كالبرق. أعرف خداماً بالاسم، منهم من ترك الأرثوذكسية واتجه للإنجيلية وبعضهم عاد للخدمة مرة أخرى وآخرين لا.(سالي فريد، 42 عاماً، خادمة متطوعة بكنيسة القديس مار مرقس الرسول، شبرا)
القس إبراهيم عبد السيد… طرد وحرمان
لا تختلف حكاية منع كتب القس إبراهيم عبد السيد الذي توفي عام 1999، عما حدث مع الأب متى المسكين وجورج حبيب بباوي.
بدأ الخلاف مع بابا الإسكندرية الراحل عندما أصدر عبد السيد كتباً تنكأ جراح الكنيسة وتضيء على أزماتها، وانتهت بإخطار الأنبا بيشوي مطران دمياط الراحل والرئيس السابق للجنة المحاكمات الكنسية لعبد السيد، أنه “في إجازة مفتوحة وعليه الابتعاد عن كنيسته بالمعادي”.
كانت كتب القس إبراهيم ثورية -إن جاز التعبير- فهي تكشف عيوب وأزمات الإدارة الكنسية في وقته، ويكفي معرفة عناوين كتبه لفهم الأسباب التي أدت إلى طرده من الكهنوت، ومعاملته معاملة الخارجين عن المسيحية، حتى بعد وفاته أُعطى البابا شنودة أمرًا للكنائس بعدم الصلاة عليه.
ومن كتبه التي بقيت ممنوعة من التداول: “البدع والهرطقات خلال عشرين عامًا”، و”المحاكمات الكنسية”، و”أموال الكنيسة من أين وإلى أين؟”، و”المعارضة من أجل الإصلاح الكنسي”، و”البطريرك القادم ممن يُختار؟ ومن الذى يختاره؟ وكيف؟”، و”السلطان الكنسي أبوة لا إرهاب”، و”متى يعود الحب المفقود في الكنيسة القبطية؟”، و”الرهبنة في الميزان”، و”أموال الكنيسة من يدفع؟ ومن يقبض؟”، و”الأحوال الشخصية… رؤية واقعية”.
البابا شنودة المصدر الوحيد للتعليم
الباحث في التاريخ المسيحي، “ماركو الأمين”، يرى أن التعليم المتشدد والراديكالي الذي تبناه البابا شنودة الثالث كان السبب في اتساع هوة الخلاف مع خصومه، وقال: “مراحل التسعينيات فصعودًا شملت خلافات البابا الراحل مع خصومه في الرؤى السياسية والاجتماعية”
ويشير إلى أن الإيبارشيات تختلف فيما بينها بشأن رغبة أساقفتها في السماح ببيع وتداول الكتب الممنوعة، “ولكن أي محاولة إصلاحية من البطريرك الحالي الأنبا تواضروس تقابل بالرفض من السواد الأعظم من الأساقفة المتبنين للفكر القديم ومن عموم الشعب القبطي نفسه، الذي لا يعرف شيئًا عن أصحاب التيار التنويري بسبب إقصاء البابا السابق لهم بالمنع أو الطرد أو تشويه صورتهم في عظاته وكتبه، التي تلقى قبولًا شعبيًا”.
ويستكمل الباحث في التاريخ الكنسي: “لدى جيل شباب الثورة مصادر متنوعة للمعرفة، ولم يعد في حاجة إلى الاقتناع بالأفكار التقليدية التي كانت تلقن للجيل السابق”.
من جهته يتفق كمال زاخر مؤسس التيار العلماني في الكنيسة، والكاتب في الشؤون القبطية مع ماركو الأمين على تنوع مصادر المعرفة، وعدم الحاجة إلى البحث عن تداول أو منع الكتب في مكتبات الكنائس، ويقول:
المصادرة والمنع ليسا آلية ذات تأثير في عصر السماوات المفتوحة والثورة الرقمية.
معظم الكتابات التي هي محل خلاف في السابق، أصبح لها نسخ إلكترونية متاحة للقراءة على منصات التواصل الاجتماعي، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، مذكرات العلامة الراحل الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي، الذي تعرض بسببها لصدام مع البابا الراحل شنودة الثالث.
الإصلاح والانفتاح على الكتابات المغايرة في الرأي هما جزء من عملية الإصلاح، التي تحتاج إلى صبر وتراكم، وهي تحدث في عصر البابا تواضروس وإن كانت تقابل بمقاومة من التيارات التي تستفيد من استمرار الانغلاق، غير أن هذه المقاومة لن تدوم، إذ ستكون هناك محاولات للفهم بعد الرفض، يعقبها قبول التنوع والاختلاف في الرأي.(كمال زاخر، كاتب ومفكّر قبطي، وعضو مؤسس بالتيار العلماني في الكنيسة)
لا يزال للماضي تأثيرًا قويًا على حياتنا ويمنعنا من المضي قدمًا، ويفرض علينا أفكارًا عفا عليها الزمن، ولا يزال فقهاء عصرنا ينسخون من أفكارٍ بعضها فاق عمره الألف سنة، حيث لا يزال يتم إعادة تدوير الأفكار القديمة دون النظر في كيفية ارتباط هذه الأفكار بالوقت الحاضر. نحن بحاجة إلى تحدي هذه الأفكار وإنشاء عقد اجتماعي جديد يحدد دور الدين في الحياة وتحريره من السلطة السياسية. لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، تعال وانضم إلينا في هذه الرحلة واكتب قصصك. أخبرنا بما نفتقده. غيّروا، ولا تتأقلموا!
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
نحاول تخمين اهتماماتك… ربما يهمك أن تقرأ أيضا:
- بعيدًا عن ضوضاء العالم على قمة أحد تلال الجبال الملاصقة للدير يقف شامخًا متواضعًا راهب من أحد الأديرة العامرة، واحد من أُناس الله الأتقياء الكثيرين الذين تركوا العالم واتجهوا إلى الصحراء ليتفرغوا للعبادة بعيدًا عن صخب العالم واضطراباته، هروبًا من الكثير مما قد يشغل النفس البشرية عن مسعاها الأبدي في معرفة الله والاتحاد به، وهو ما يجب أن يكون......