وقفت سيدة في العقد الرابع من عمرها أمام مكتب الأب الكاهن المسئول عن احتياجات الفقراء ويبدو أنها كانت تنتظر لساعات طويلة فانكسار العوز والاحتياج امتزج مع تعب الانتظار وظهروا واضحين على ملامح وجهها.
فرفعت عينيها أمام صورة للسيدة العذراء وهي تحمل الطفل يسوع وغلبتها دموعها في صمت فهذه ثالث مرة تأتي للكاهن المسئول طالبة معونة لزوجها المريض واحتياجات البيت الأساسية والكاهن يصرفها بكل جفاء فارغة اليدين بحجة أن اسمها غير مدون في سجلات أخوة الرب وعليها أن تنتظر حتى يكونوا لجنة لبحث حالتها، واللجنة تكون لجنة للوقوف على وجودها في المربع السكني الخاص بالكنيسة أم أنها تقع في مربع سكني خاضع لإشراف كنيسة أخرى فتتكون لجنة أخرى لتحويل ملفها للكنيسة الأخرى حتى يكونوا لجنة لبحث حالاتها ويشوفوا إذا كانت تستحق بركة إخوة الرب أم أنها لا تستحق.
في المرة الأولى انحنت لتقبل قدمي الكاهن المسؤول فزوجها على فراش الموت وأولادها يموتون جوعًا والعيد على الأبواب، لكن الأب الكاهن أعتذر لها بأنه عاجز عن مساعدتها وأن الأسقف يشدد على أنه ممنوع مساعدة من هم أسماءهم غير مدرجة في كشوف أخوة الرب ورجعت بيتها بخيبة أمل وكسرة نفس لم يعيدها للمرة الثانية إلا تدهور حال زوجها فجاءت باكية متوسلة للكاهن المسؤول الذي كان مشغولا مع بعض أراخنة الكنيسة الذين جاءوا محملين بعطايا مادية وعينية وكان الكاهن قد أعد لهم مائدة مكتظة بالمأكولات البحرية تليق بهم انتهت بأن ترك كلا منهم تبرعًا بمبالغ عبارة عن أرقام يوضع أمامها أصفار كثيرة.
كانت هي واقفة تشاهد وتنتظر، وانتظرت حتى فرغوا تماما وناداها الكاهن المسؤول لتساعد في جمع بقايا الطعام وتنظيف المكان وفِي النهاية سمع لها الكاهن ومد يده في جيبه وأعطاها ورقة فئة الخمسين جنيهًا وصرفها متعللا أنه لا يستطيع أن يساعدها بأكثر من ذلك لأنهم داخلين على عيد وبدأ تجديد مبنى الخِدْمَات، ويشترون أواني مذبح جديدة وكسوة جديدة، غير أن المستشفى ودار المسنين الملحقين يحتاجون للمال، ويريدون شراء بضاعة للكانتين لأن العيد اقترب وهناك مرتبات عيدية والذي منه.
فمضت مكسورة النِفس للمرة الثانية ولَم تمض سوى بضعة أيام حتى اتصل بها الكاهن المسؤول وقال لها: “أبشري يا أم فلان ممكن تاخدي تبرع كويس بس بشرط هنصورك واحنا بنديكي كرتونة العيد وهديكي فلوس كويسة تودي جوزك للدكتور وتعالجيه ومتخافيش الكلام ده مش هيتذاع غير القنوات المسيحية علشان نعرف نلم ليكم تبرعات لما يشوفوها الناس اللي برة”.
وعندما حاولت أن تعتذر لخجلها وأنها لن تعرف أو تستطيع فعل ذلك، فنهرها الكاهن المسؤول قائلا: “أمال احنا هنجيب لكم منين ده بدل ما تشكريني إني بعمل معاكي معروف انتي تجيلي بكرة الساعة ٢ الضهر اقعدك مع حد يحفظك تقولي ايه! ولو مجتيش ذنب جوزك وعيالك احنا براءة منهم وذنبك على جنبك”، وأغلق السماعة في وجهها وأغلق مع السماعة كل مفاتيح السماء المتحكم فيها، الذي يمتلكها وحده وانهمرت في الدموع وجاءت ابنتها الكبرى وابنها الصغير يجلسون بجانبها يربتون كتفها.
وقررت أخيرًا أن تنصاع لأوامر الكاهن وذهبت له، وها هي واقفة تنتظر حتى يأتيها أحدهم يعلمها ويحفظها ماذا ينبغي أن تقول أمام الكاميرا، وأخيرا خرج لها الكاهن المسؤول ومعه تاسوني والمخرج ومعدة البرنامَج ورحبوا بها وطمأنوها أن ما سيصوروه لن يعرض إلا على الفضائيات المسيحية وفجأة قطع هذا الهدوء صرخات وعويل لم يكن يعرف أحدهم سببه أو مصدره ولكنها استطاعت تمييز الصوت، أنه صوت ابنتها صارخة: الحقي يا أما أبويا مات ياما أبويا مات.. مات ياما وسبنا لمين أبويا مااااااااااات.
التفت الكاهن للمرأة يعزيها قائلا لها زوجك ارتاح من أتعاب العالم وراح لمكان أفضل ولكنه لما يجدها أمامه فقد جرت مهرولة لمنزلها لترى زوجها الذي رحل للتو للسماء ليشكو لإله السماء عن قسوة سكان الأرض.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟