هناك استحالة في أن يتعرف المخلوق إلى ذات الخالق أو الاتصال به دون تدخل الله الخالق، وإلا أصبح لا فرق بين الخالق والمخلوق، بل حتى صورة الله التي تصور عليها الإنسان عند الخلق وقربه من الخالق في جنة عدن لم تكن لتمنع سقوط الإنسان وتغربه عن حياة الله، وخروجه إلى مصير العدم/ الفساد.
لذلك كانت المرحلة الثانية في تدبير خلق الله لآدم أن يتحقق له ”الشبه“ بالخالق في الخلود وعدم الموت والفساد.
وبينما هذه الاستحالة استوجبت في تدبير الخالق اكتمال القرب من محبوبه الإنسان عندما يختار الإنسان الالتصاق بصورة الله فيه ويدخل حياة الشركة في مجال حياة الله التي أشار إليها الرب أن يصير الإنسان على مثال خالقه وشبهه، إلا أن البعض من البشر ذهب إلى عكس القصد من تدبير الخلق الواضح أن معرفتنا للخالق هي نعمة ولا تتحقق إلا باقترابه منا. وهذا صحيح لأن الله لا يقتحمه كائن من/ ما كان. ولكنهم ذهبوا إلى أبعد من هذا بأنهم ظنوا باستحالة اقتراب الله من الإنسان، وقالوا بأن هذه الاستحالة تستوجب تنزيه الله عن اتصاله بالإنسان، فأنكروا اقتراب الله من الإنسان في التجسد الإلهي.
والحقيقة إن اعتقادهم هذا إنما يؤكد أيضاً استحالة تعرُّف المخلوق إلى الخالق اعتماداً على قدرته البشرية، فبحسب ما يعتقدون من تنزيه الخالق عن خليقته، فإنهم حرموا أنفسهم من تدخل الخالق بنعمته حتى يستعلن لهم ذاته. لذلك قال عنهم الله في العهد القديم والعهد الجديد ”تسمعون سمعا ولا تفهمون“. ثم أن تنزيه الله حسب اعتقادهم لا يساير حقيقة أن الله وضع آدم على مقربة منه في جنة عدن كما قلنا في مقال سابق.
لقد تَخطَّي الله استحالة معرفتنا له بمفارقة عظمى للتنزيه الناقص الذي ابتدعوه عن الله. فالسياق التاريخي لعلاقة الله بالإنسان كما شهد بها الوحي المقدس يكشف بوضوح أن حياة الشركة مع الله هي الطريق الوحيد إلى معرفة الله ”لا يعرف أمور الله إلا روح الله الساكن فيه“.
باختصار فإن معرفة الله لن تكون إلا بالشركة في مجال حياة الله تعالى، وهذا هو سر تدبير الخلق ”السر المكنون منذ الدهور“ الذي أكتمل إعلانه في سر الخلاص بتجسد المسيح (كما سيأتي شرحه في مقال قادم). فقد كان مُذَّخَراً منذ البَدْء أن القصد من خلق الإنسان هو حلول الله فينا فنعرفه:
”مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ الَّتِي فِي وَسَطِ فِرْدَوْسِ اللهِ“
(سفر الرؤيا 2: 7)
”نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَ“
(سفر التكوين 1: 26)
”فَمَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي“
(إنجيل يوحنا 6: 57)
من هنا نفهم كيف كان تدبير الله لإيمان الإنسان به هو بحلول الله الفعَّال الذي بلغ أوج قمته في استعلان المسيح كلمة الله وحكمة الله وبهاء مجد الله ورسم جوهره. فالمسيح هو ”الله الذي ظهر في الجسد“ الذي فيه نقل الله بشرية الإنسان إلى مجال حياة الله فدخلت معرفة الله إلى عالم الإنسان بصورة حياتية عملية كيانية هي سر تقوى الإنسان وخلوده في الله إلى الأبد
”وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي الرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي الْعَالَمِ، رُفِعَ فِي الْمَجْدِ“
(رسالة بول الأولى إلى تيموثاوس 3: 16)
هذا المفهوم المسيحي للإيمان بأنه قَبُول وانتقال لحياة الله إلى داخل كيان الإنسان يظهر في أحاديث الرب بالكتاب المقدس وتركيزاً في العهد الجديد إذ يقدِّم الرب يسوع المسيح شخصه أنه ”الماء الحي/ والخبز الحي النازل من السماء“ الذي به ينقل الرب البشرية إلى ذاته ”من يأكلني يحيا بي“. وكان لقاء الرب مع السامرية مثالاً لذلك. وقراءة الإنجيل الذي نقل للعالم لقاء المسيح بالسامرية تسميه الكنيسة إنجيل السامرية وهو من الأهمية بمكان حتى أنه يتوسط أحاد الصوم الأربعين المقدس، قدس أقداس المواسم الكنسية في المسيحية.
والسُبح لله.
بقلم د. رءوف إدوارد
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟