لقد ربط علم النفس بين مراحل نُضْج شخصية الإنسان بمراحل تطور ونضج مشاعر الحب الإنساني وصولاً إلى مرحلة اكتماله بعد مروره بأطوار من الحب أقل نضجاً في مرحلة الطفولة والمراهقة. فالحب الناضج من أهم سمات الشخصية المتكاملة التي فيها يتكون لدى الإنسان الاشتياق والاحتياج أن يلتصق بإنسان آخر عنه ومساوي له في شركة حب هو الحب الناضج الحقيقي.
ويتميز الحب الإنساني الناضج بأنه حياة شركة لا امتلاك لذلك يتميز بالفرادة ولا يحتمل التعدد، والمحبوب فيه (هو/ هي) شخص ومساوي ”معين نظيره“ (سفر التكوين) له حرية الاختيار والإرادة و وليس شيئاً يُمتَلك.
ويتميز شخص المحبوب أنها/أنه ”مختلف“ (كما في الحب الناضج بين المرأة و الرجل) ليستطيع الحب أن يُعبِّر عن وجوده بالعطاء والفيض نحو آخر وليس الأنا. وعكس هذا قد يكون أنانية وليس حب ناضج يتجه نحو ”آخر“ بل نحو ”الأنا“.
والحب الحقيقي ليس احتياج للأخذ بقدر أنه احتياج للعطاء، لذلك فهو يُوجَد حيثما يُوجَد الغِنى الحقيقي للشخصية عند اكتمال نضجها. فالحب بعطائه، استعلان لهذا الغِنى وتحقيق له، فالغِنى بكل أشكاله يظل بلا معنى ولا شبع لصاحبه دون حب يشارك فيه الآخر.
والعجيب أن فيض و”عطاء“ الحب الحقيقي هو في واقعه ”أخذ“ لأنه يَؤول إلى ”امتلاء“ لا نقصان للحب إذا كان حقيقيا، والعكس صحيح في الحب الزائف إذ إن العطاء يستنزفه ثم يفضحه إذ يجف هذا الحب ويتلاشى.
لقد استطردنا في وصف الحب الحقيقي عند الإنسان لأنه -أي الحب الحقيقي- كما سنرى هو بصمة الخالق في ”تدبير الخلق“ وانعكاساً مُصغَّراً يشهد لحب الله المطلق ”الله محبة“ ويحمل صفات طبيعة الله كمصدر لهذا الحب، فتدبير الخلق أي خلق الله للإنسان هو فيض حب وحياة أبدية مذَّخرة في كيان الله.
فإذا دققنا النظر في تدبير الخلق ينكشف لنا أن السر فيه يكمن ويتحقق في خلاص وحفظ الله للإنسان من أية احتمالات سقوط تعود به من حيث أتى قبل الخلق، أي العدم واللا وجود، فإن القصد الإلهي من خلق الإنسان هو نعمة خلود الإنسان إلى الأبد = الحياة الأبدية في الله وذلك يتحقق للإنسان عندما ينتقل من خليقة ”على صورة الخالق“ كما كان في خلق آدم الأول ليصير خليقة ”على شبه الخالق“ كما تحقق في آدم الثاني يسوع المسيح. فهذا ”الشبه“ حققه المسيح في ناسوته عندما تجسد وأكمل نعمته علينا بالشركة في الطبيعة الإلهية (رسالة بطرس الرسول الثانية).
باختصار فإن تدبير الخلق الذي أعلنه الله في بداية سفر التكوين ”نعمل الإنسان علي صورتنا كشبهنا“ قد أُكمِل في المسيح يسوع ربنا بالتجسد الإلهي. فإن قول الرب يسوع المسيح “مَن رآني فقد رأى الآب“ ليس فقط لأن المسيح والآب واحد في اللاهوت ”أنا والآب واحد“، بل أيضا لأن المسيح نقل ناسوت البشرية الذي لبسه من ”صورة“ الله إلى “شبه” الله وتمم بذلك قصد الخلق الذي أعلنه الله في بَدْء سفر التكوين ”نخلق الإنسان على صورتنا كشبهنا“.
والسُبح لله.
بقلم د. رءوف إدوارد
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟