تكلمنا في مقالات سابقة عن سر الله في تدبير الخلق. وأنه بمثابة حضور لله فيما خلقه وليس تنزيه الله عن الخليقة والبعد عنها، وإلا فلماذا خلقها؟

نقول إن الله هو المطلق والأعظم في طبيعته و صفاته، لذلك فإن الله ليس في حاجة إلى مخلوق ليستعبده بالخضوع والعبادة لأن هذا دليل نقص لا سمو، والعكس صحيح.

سر الخلق هو فيض وإعلان لعظمة الله، لقد أسبغ الله بنعمته مجاناً على الإنسان وخلقه من العدم، وعندما يدرك الإنسان عظيم صنيع الله معه فإنه يختار بحرية إرادته أن يبادل حب الله المُعلَن في سر الخلق بحبٍ مقابل ورغبة في تحقيق قصد الله نحو الإنسان وهو نعمة خلود الإنسان في مجال حياة الله إلى الأبد. لذلك نقول إن ”الخلاص المسيحي“ في مفهومه الشامل هو خلاص الإنسان من العدم، وأن معرفة  الإنسان الحقيقية لله لا تكون إلا بنعمة الشركة في  مجال حياة الله حيث ينال الإنسان الخلود والحياة الأبدية.

“وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ.”

(إنجيل يوحنا 17: 3)

لقد بدأ خلاص الإنسان من العدم في ”تدبير الخلق“، واكتمل بالتجسد الإلهي وفداء المسيح الذي نسميه ”“،  لذلك قال الرب في ختام إرسالية التجسد الإلهي ”قد أُكمِلَ“.

حضور الله في الخليقة كان سابقاً لتجسد المسيح: إن حضور الله في الخليقة قبل التجسد كان حضوراً غير منظور، ولكنه كان ولا يزال حضوراً كلياً  Omnipresence.

إن أعمال الله الواحد القدوس هي أعمال ثالوثية، يقوم بها الله الآب بالابن في الروح القدس.

إن ابن الله هو كلمة الله وحكمة الله:

”بِكَلِمَةِ الرَّبِّ صُنِعَتِ السَّمَاوَاتُ“

(مزمور 33: 6) 

الرَّبُّ بِالْحِكْمَةِ أَسَّسَ الأَرْضَ. أَثْبَتَ السَّمَاوَاتِ بِالْفَهْمِ.

(سفر أمثال 3: 19)

وهكذا  كان تدبير الخلق بدءاً لحضور الله الكلي الفعَّال في العالم، بوجود اللوغس/ الله الكلمة في العالم، وجود المحرِّك الفعَّال الُمحيي بقوته وقدرته.

إن حلول ”كلمة الله“ في الخليقة Immanence  يشمل كل شيء وكل مكان جزئياً وكلياً، وفي نفس الوقت يبقي الله منزَّهاً عن عجز كل شيء، فاللوغس ابن الله الوحيد ليس بينه وبين المخلوقات أي تشابه طبيعي، هو موجود في العالم المخلوق ليس بالوجود الضمني المحدود بمعنى الاحتواء بل بقوته وقدراته. أما جوهر الله (كيانه الذاتي) فهو فائق عن كل ما في العالم. فهو حلول فيه تنزيه للكلمة. وتَفَوُّق الخالق  Transcendence.

فالكلمة اللوغوس موجود في كل الخليقة (قبل التجسد) دون أن يشترك في طبيعتها، بل هي التي تشارك في مجال وجوده فتنال نعمة وجودها من سلطانه. إن الله الكلي الوجود والقدرة قد ملأ  كل خليقة بوجوده من خلال ”كلمة الله“:

الَّذِي يَمْلأُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ.

(رسالة بولس إلى أفسس 1: 23)

وهكذا تتحقق معرفة الإنسان الحقيقية  لله في ذاته الواحد، الآب والابن والروح القدس:

لأَنَّ الأَرْضَ تَمْتَلِئُ مِنْ مَعْرِفَةِ الرَّبِّ

(سفر إشعياء 11: 1)

وبذلك ”يجمع كل شيء في ذاته“، إن الأسفار المقدسة تشهد أن ”الكلمة“ قد ”ملأ كل شيء“ ولم يترك شيئاً خالياً من لاهوته ومعرفته، وأغلق على الإنسان في دائرة معرفة الله في كل مكان بالسماء وعلى الأرض، وعلى وجه الخصوص في داخل كيان الإنسان نفسه.

لقد لمس الرب كل أجزاء الخليقة، فأخلاها من كل خداع ليرى الإنسان فيها حق ”الله الكلمة“ الذي يملأ الكل، بل وليست الهاوية استثناء في ذلك. فإذا نزل الإنسان إلى الهاوية يتيقن أن المسيح كلمة الله نزل إلى ”ما تحت الأرض، وأقسام الأرض السفلى“ وهي تشهد بقيامة المسيح وغلبته على الموت:

”لِذلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، (الأموات في الهاوية)، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ“.

(رسالة بولس إلى فيلبي 2: 9-11)

الَّذِي فِيهِ أَيْضًا (المسيح مماتاً في الجسد) ذَهَبَ فَكَرَزَ لِلأَرْوَاحِ الَّتِي فِي السِّجْنِ (الهاوية)“

(رسالة ى 3: 19)

”لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، فِي ذَاكَ“

(رسالة بولس إلى أفسس 1: 10)

حيث يتأكد لنا أن ”تدبير الخلاص“ بالمسيح هو تكميل ”تدبير الخلق“.

التجسد الإلهي هو النقطة الحرجة لحضور واستعلان الله في الخليقة: وتأسيساً على ذلك، فإن التجسد الإلهي ليس بغريب عن هذا الحضور الإلهي في الخليقة بل هو النقطة الحرجة في هذا الوجود الإلهي المُعلَن في حيز التاريخ الإنساني المحدود لاستعلان  كيان الله الواحد ، إذ استُعلنت ”حكمة الله؛ و”قوة الله“، و”إرادة الله“،  و”فكر الله“ بصورة متجسدة  محسوسة في شخص يسوع المسيح بالقدر الذي يكشف حضور الله الفعلي والعملي في الإنسان وللإنسان:

“فَإِنَّ الْحَيَاةَ أُظْهِرَتْ، وَقَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ بِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الآبِ وَأُظْهِرَتْ لَنَا”.

(رسالة يوحنا الأولى 1: 2)

الإخلاء الإلهي في سر تجسد ابن الله: فبرغم استعلان الله لذاته في سر تجسد المسيح، فإنه ظل في قياس يتناسب مع قدرات الإنسان المحدود، ولم يكن استعلاناً مطلقاً يتناسب مع كيان الله المطلق والغير محدود. لقد ظل الظهور الإلهي في سر التجسد مَخفِّياً ومُعلَناً بآن واحد!!

ليكون الإيمان بالله اختياراً وقبولاً من الإنسان وليس فرض وقمع الغير محدود للمحدود:

“فِي ذلِكَ الْوَقْتِ أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ”.

(إنجيل متى 11: 25)

إن الإيمان بألوهية المسيح وخلاصه للإنسان هو في متناول كل بشر حتى الأطفال منهم، ولكنه يستعصي علي الذين انتفخوا بمحدودية حكمتهم واستعلوا فوق حب الله المطلق وقدرته غير المحدودة  في سر التجسد: ”كيف يعطينا هذا جسده لنأكله. وتركه كثيرون“، أما الذين قبلوه فقد أدخلهم في سر بشريته التي من خلالها نقل الرب  البشرية إلى ذاته ”من يأكل جسدي ويشرب دمي يكون فيَّ وأنا أكون فيه“.

والسُبح لله.

بقلم د. رءوف إدوارد

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

” تدبير الخلاص“ وتكميل ”تدبير الخلق“ 1
[ + مقالات ]