نستكمل في هذا المقال تعاليم آباء  عن " و".
القديس يوحنا ذهبي الفم

يُصادِق ق. على نفس كلام الآباء السابقين واتحادنا الكياني في المسيح، وإننا نصير جسد المسيح ليس بالرغبة أو الإرادة فقط، بل في الواقع أيضًا كالتالي:

”إن دور التلميذ هو ألا يفحص بوقاحة في تعاليم مُعلِّمه، بل دوره أن يسمع ويؤمن وينتظر الوقت لذلك لكي ما نصير جسده ليس بالرغبة فقط، بل أيضًا على مستوى الواقع، فليتنا نصير متَّحِدين بذلك الجسد، وهذا بالحق يتم بواسطة الطعام الذي أعطاه لنا كهبة [أي ال]، لأنه أراد أن يُبرهِن على الحب الذي له من نحونا. إذ لهذا السبب أشرك نفسه معنا، وأنزل جسده لمستوانا أي نصير واحدًا معه كاتحاد الجسد مع الرأس، وهذا بالحق هو سمة حبه العظيم“. (31)

(يوحنا ذهبي الفم (قديس)، عظات على إنجيل يوحنا ج1، تَرْجَمَة: راهب من برية شيهيت)

ويُحدِّد ق. يوحنا مفهوم التقدمة أو الفدية أو الذبيحة بأن الابن وحَّد نفسه بنا وقدَّمنا كذبيحة في نفسه، لأن الابن كله حلَّ فينا لا بنوع من الطاقة، بل كجوهر كالتالي:

”يقول الرسول وبتشديد أكثر أن كل ما هو للآب هو للابن أيضًا، لأنه صار ميتًا لأجلنا، ووحَّد نفسه بنا. لم يقل الرسول 'باكورةً‘ كما في الثمار، ولم يقل 'قيامةً‘ فحسب، بل قال 'باكورة القيامة‘ مظهرًا أنه قد قدَّسنا كلنا، وقدَّمنا كما لو كنا ذبيحةً. إن البعض يستخدم تعبير 'الملء‘ كنايةً عن اللاهوت، كما قال يوحنا: 'ومن ملئه نحن جميعًا أخذنا‘ (يو 1: 16). أي مهما كان الابن، فالابن كله حلَّ هناك ليس بنوع من الطاقة، بل كجوهر“. (32)

(يوحنا ذهبي الفم (قديس)، شرح رسالة إلى أهل كولوسي، تَرْجَمَة: )

ويتحدَّث ق. يوحنا ذهبي الفم عن امتزاج المسيح بنا في جسده ليس بالإيمان فقط، بل بجعلنا جسده الحقيقي، حيث يقول:

”فلم يكن كافيًا للسيد أن يصير إنسانًا ويُضرَب ويُقتَل، لكنه بمزج نفسه أيضًا بنا، لا بالإيمان فقط، بل بجعلنا أيضًا جسده بالفعل“. (33)

(يوحنا ذهبي الفم (قديس)، عظات على إنجيل متى ج4، تَرْجَمَة: د. )

ويؤكِّد ق. يوحنا ذهبي الفم على نفس التعبير مُعطِيًا له بعدًا سرائريًا، وهو امتزاجنا بالمسيح في جسد واحد في سر الإفخارستيا كالتالي:

”المائدة التي منها نقتات نحن، التي بها نمتزج ونصير جسدًا واحدًا ولحمًا واحدًا مع المسيح“. (34)

(يوحنا ذهبي الفم (قديس)، عظات على إنجيل متى ج4، تَرْجَمَة: د. عدنان طرابلسي)

ويُشدِّد ق. يوحنا ذهبي الفم على نفس مفهوم امتزاج المؤمنين بالمسيح في الأسرار قائلاً:

”فالسيد يمزج ذاته بكل واحد من المؤمنين في الأسرار، وهو يُطعِم بنفسه الذين ولدهم ولا يُسلِّمهم لآخرين، مُقنِعًا إياكم بهذا مرةً أخرى أنه اتخذ جسدكم“. (35)

(يوحنا ذهبي الفم (قديس)، عظات على إنجيل متى ج4، تَرْجَمَة: د. عدنان طرابلسي)

ويُعرِّف ق. يوحنا ذهبي الفم مفهوم شركتنا في جسد المسيح في موضع آخر قائلاً:

”لقد قال: شركة جسد المسيح، ليؤكِّد على أن ما نتناوله حقًا هو جسد المسيح المحيي، فعندما قال: شركة جسد، فإنه أراد أن يقول شيئًا يُعبِّر به عن أن الاتحاد يمضي في طريقه نحو ما هو أكثر، ولذلك أضاف: فإننا نحن الكثيرين خبز واحد وجسد واحد (1كو10: 17) ولماذا يقول شركة؟ يقول إن هذا الجسد ذاته هو نحن، لأنه ما هو الخبز؟ إنه جسد المسيح. وماذا يحدث للمؤمنين الذين يتناولون منه؟ يصيرون جسد المسيح، وليس أجسادًا كثيرة، بل جسدًا واحدًا“. (36)

(يوحنا ذهبي الفم (قديس)، تفسير الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس ج2، تَرْجَمَة: د. )

القديس كيرلس الإسكندري

يتحدَّث ق. مُؤكِّدًا على فكرة وجودنا الكياني في المسيح أثناء صلبه كالتالي:

”ونحن قد صُلِبَنا معه لما صُلِبَ جسده الذي كانت فيه كل طبيعتنا“. (37)

(كيرلس الإسكندري (قديس)، تفسير رسالة رومية)

ويُؤكِّد ق. كيرلس الإسكندري في موضع آخر على فكرة شركتنا مع المسيح بالطبيعة في عمله الخلاصي، حيث يقول التالي:

”ومن أجل منفعتنا يقول إن الكلمة سكن فينا، لكي يرفع الحجاب عن السر العميق، لأننا نحن جميعًا في المسيح، والجماعة المشتركة في الطبيعة الإنسانية ارتفعت إلى شخصه، وهو ما جعله يُدعَى ' الأخير‘ (1كو15: 45) واهبًا بغنى للطبيعة الإنسانية المشتركة كل ما يخص الفرح والمجد“. (38)

(كيرلس الإسكندري (قديس)، تفسير إنجيل يوحنا مج1، تَرْجَمَة: د. وآخرون)

كما يُفرِّق ق. كيرلس الإسكندري بين الهرطوقي والأرثوذكسي بشكلٍ واضحٍ في مسألة أننا ككنيسة جسد المسيح الإفخارستي قائلاً:

”وحيث أن الهرطوقي في حماقته، يريد أن يُروِّج لآرائه الزائفة، ويقول: 'إنَّ أيّ مُجادلة لن تجعل الذين يُحرِّفون معنى الكلمات التي أمامنا عن معناها السليم، ويَعتبرونها تشير إلى تجسُّد المسيح، لأننا لم نتَّحد به بالجسد، ولا الرسل يثبتون في جسد المسيح كأغصان، ولا هم كانوا مُرتبِطين به بهذا الشكل، بل عن طريق وحدة الفكر والإيمان الحقيقي‘. والآن فلنُجاوِب على هذا الكلام باختصار، ونُبِين للهرطوقي أنه قد انحرف تمامًا، وهو لا يتبع الكتب المقدَّسة باستقامة. فكون أننا مُتَّحِدون روحيًا بالمسيح بما يتطابق مع المحبة الكاملة، فهذا لا يُنكِره بيان عقيدتنا بأيّ حال، فنحن نعترف أن المعترِض على صواب في قوله من هذه الجهة، ولكن أن يقول إنه لا توجد أي إشارة في المثل إلى اتحادنا بالمسيح بالجسد، فنحن سنُوضِّح أن كلامه هذا يتعارض تمامًا مع الكتب الموحَى بها، لأنه كيف يمكن أن يُجادِل أحد، أو هل يُمكِن لأيّ إنسان ذي فكر مستقيم أن يُنكِر أن المسيح هو الكرمة من ناحية جسده؟ ونحن لكوننا أغصان حسب الرمز [أي رمز الكرمة والأغصان]، فإننا ننال في أنفسنا الحياة النابعة منه، كما يقول بولس: 'لأننا نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح، فإننا نحن الكثيرين خبز واحد […] لأننا جميعًا نشترك في الخبز الواحد‘ (أنظر رو12: 5؛ 1كو10: 17). ما هو سبب هذا وهل يستطيع أحد أن يُعطِينا تفسيرًا بدون الإشارة إلى قوة السر المبارك؟ ولماذا نحن نتناوله ونأخذه داخلنا؟ أليس لكي يجعل المسيح يحل فينا جسديًا أيضًا بالاشتراك في تناول جسده المقدَّس؟ أنه يجيب بصواب قائلاً نعم هو كذلك. لأن بولس يكتب هكذا: أن الأمم شركاء في الجسد، وشركاء المسيح في الميراث (أنظر أف3: 6). كيف يكونون أعضاء في الجسد؟ ذلك بسبب دخولهم [أي الأمم] ليشتركوا في الإفخارستيا المقدَّسة، وهكذا يصيرون جسدًا واحدًا معه مثل أيّ واحد من الرسل القديسين!“. (39)

(كيرلس الإسكندري (قديس)، تفسير انجيل يوحنا مج2، تَرْجَمَة: د. نصحي عبد الشهيد وآخرون)

وأخيرًا، يؤكد ق. كيرلس الإسكندري على أننا بالإفخارستيا أي

”بشركة جسده الخاص الذي يسكب فينا شركة الله، ويمحو الموت الذي حلَّ بنا من اللعنة القديمة“. (40)

(كيرلس الإسكندري (قديس)، تفسير إنجيل يوحنا مج1، تَرْجَمَة: د. نصحي عبد الشهيد وآخرون)

وهكذا نجد التأكيد في شروحات آباء الكنيسة على اتحادنا الكياني في المسيح سواء في أو على مستوى الأسرار، بالتالي لا يمكن أن يكون جسد المسيح أي جسد البشرية، كما يدَّعي البعض خطاءً، جسدًا اعتباريًا، أو رمزيًا، أو روحيًا فقط، بل جسدًا حقيقيًا بشهادة جميع آباء الكنيسة الجامعة شرقًا وغربًا.

حيث يدحض آباء الكنيسة التعليم غير الأرثوذكسيّ ب، وادعاء البعض بأن جسد المسيح الذي أخذه من العذراء غير جسده أي الإفخارستيا، وغير جسده أي الكنيسة، واعتبار جسد المسيح السريّ أي الكنيسة هو مُجرَّد جسد رمزيّ اعتباريّ.

وتتفق في ذلك آراء آباء الكنيسة الغربية اللاتينية مع آراء الكنيسة الشرقية اليونانية، حيث قد وجدنا أنهم يؤكِّدون على وحدة الأجساد الثلاثة، وعدم فصلهم عن بعضهم البعض، مُتفِقين مع أقول آباء الشرقية في نفس الموضوع، وأود التنويه إلى أن ما أعرضه من أقوال الآباء وشروحاتهم هو بعض من كل، وقليل من كثير، وعشرات بل مئات من الشروحات تؤكِّد على اتحادنا الكياني في المسيح.


هوامش

(31) يوحنا ذهبي الفم (قديس)، عظات على إنجيل يوحنا ج1، تَرْجَمَة: راهب من برية شيهيت، (القاهرة: ، 2008)، عظة 46، تعليق على (يو6: 41- 53)، ص 451.
(32) يوحنا ذهبي الفم (قديس)، شرح رسالة بولس الرسول إلى أهل كولوسي، تَرْجَمَة: نشأت مرجان، (القاهرة: مكتبة المحبة، 2009)، العظة الثالثة، تعليق على (كو1: 18)، ص 63.
(33) يوحنا ذهبي الفم (قديس)، عظات على إنجيل متى ج4، تَرْجَمَة: د. عدنان طرابلسي، (لبنان، 2008)، عظة 82: 5، ص 142.
(34) المرجع السابق، ص 142، 143.
(35) المرجع السابق، ص 143.
(36) يوحنا ذهبي الفم (قديس)، تفسير الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس ج2، تَرْجَمَة: د. سعيد حكيم، (القاهرة: ، 2017)، عظة ٢٤: ٢، ص 96.
(37) كيرلس الإسكندري (قديس)، تفسير رسالة رومية 6: 6.
(38) كيرلس الإسكندري (قديس)، تفسير إنجيل يوحنا مج1، تَرْجَمَة: د. نصحي عبد الشهيد وآخرون، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2015)، 1: 9، تعليق على (يو 1: 14)، ص 133.
(39) كيرلس الإسكندري (قديس)، تفسير انجيل يوحنا مج2، تَرْجَمَة: د. نصحي عبد الشهيد وآخرون، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2015)، 10: 2، تعليق على (يو15: 1)، ص 259.
(40) كيرلس الإسكندري (قديس)، تفسير إنجيل يوحنا مج1، تَرْجَمَة: د. نصحي عبد الشهيد وآخرون، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2015)، 3: 6، تعليق على (يو6: 35)، ص 370.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: الانجماع الكلي واتحاد البشرية بالمسيح[الجزء السابق] 🠼 الانجماع في تعاليم آباء الكنيسة الجامعة [٢][الجزء التالي] 🠼 الانجماع في الليتورجية القبطية
أنطون جرجس
بكالوريوس اللاهوت اﻷرثوذكسي في   [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: عظات القديس على سفر الجامعة
ترجمة كتاب: "الثالوث"، للقديس وس أسقف هيبو
ترجمة كتاب: "ضد "، للقديس غريغوريوس النيسي