المقال رقم 16 من 16 في سلسلة أيها الأسقف.. من أنت؟

خاتمة هذه السلسلة..

حاولت عبر سطوري السابقة أن اقترب من رتبة "الأسقف" حسب ترتيب كنيستنا القبطية الأرثوذكسية، وقد واجهني سؤال "ولماذا الأسقف تحديداً؟".

ـ ربما لأنه يشغل موقعاً متقدماً في الترتيب الهيراركي لل.
ـ وربما لأنه يحمل لقباً هو لرب المجد يسوع المسيح حسب (رسالة ى 2: 25).
ـ وربما لفداحة المسؤولية التي تثقل كاهله، حسب صلوات رسامته وتجليسه.
ـ وربما لارتباكات المناخ العام الاجتماعي والسياسي واللذان لم ينجحا حتى اللحظة، وبامتداد عقود، في القبول باندماج الأقباط في كليهما، بالرغْم من كل ما يملأ الفضاء العام من مقولات وأحاديث بل وقوانين ونصوص دستورية عن المواطنة والمساواة وعدم التمييز.

وتقفز أمامي مجدداً مقولة الدكتور ـ أحد رواد الدعوة للمواطنة والعدالة ورفض المحاصصة والتمييز سواء السلبي أو الإيجابي:

“الدولة اختزلت الأقباط في الكنيسة، واختزلت الكنيسة في الإكليروس، واختزلت الإكليروس في البابا”.

(دكتور ميلاد حنا) 

وهو الأمر الذي أراح طرفي المعادلة، الدولة والكنيسة، لكنه في ذات الوقت جعل من الأسقف، وهو حسب العرف الكنسي “بطريرك في إيبارشيته”، جعل منه مسؤولاً عن رعيته اجتماعياً وسياسياً، ولعلنا حين نستحضر أجواء الترشح للانتخابات البرلمانية نلحظ أنه في اختيار المرشحين الأقباط في قوائم الأحزاب أو في المعينين حسب الدستور، يُستطلع رأي الأسقف كل في دائرته الجغرافية، ولعل صورة الصفوف الأولى في احتفالات الكاتدرائية بالأعياد المتلفزة تشي بهذا وبقدر حرص الساعين للفوز بمقعد أو موقع سياسي من نشطاء الأقباط لأن يوجدوا في تلك الصفوف وكأنها رسالة تأكيد حظوتهم ورضا القيادات الكنسية عنهم.

نحن إذن أمام موقع كنسي له ثقله وأهميته التي تتجاوز البعد الروحي والرعوي، وتضعنا أمام أكثر من سؤال عن مواصفات وتكوين من يشغله، التي لم تعد قاصرة على المواصفات التي كانت الكنيسة تحرص عليها قبلاً، التقوى والروحانية والزهد وحسن التدبير، لتمتد الأسئلة إلى الجماعة التي يتم الاختيار منها، التي انحسرت وانحصرت في الجماعة الرهبانية والأديرة، بعد أن كان الاختيار يمتد ليشمل المتبتلين من غير الرهبان بل والعلمانيين المشهود لهم بحسن السيرة والتدبير، بل وتجاوزت الأقباط ومثالنا البطريرك ، (975 ـ 979م)، كان سورياً وتاجراً علمانياً، والمشهود له بمحاربة السيمونية -عادةشراء المناصب الكهنوتية بالنفوذ والمال-، وقاوم إلى حد الحرم ظاهرة “السراري” -اتخاذ زوجة أخرى أقل مرتبة من الأولى- وفي حبريته حدثت معجزة نقل جبل المقطم، حسب رصد ال لسيرته، بالرغم من قصر مدة بطريركيته (ثلاث سنوات وستة أشهر)، وقبله بزمن ممتد كانت الكنيسة تختار أساقفتها وبطاركتها من علماء اللاهوتية، وذهبت ورائهم حين حملوا أسفارهم ومخطوطاتهم هرباً من استهدافهم ولجأوا للأديرة واستقروا فيها، ومن هنا جاء تفضيل الاختيار من سكان الأديرة.

ومن الطبيعي أن حالة الأديرة ومن ثم الرهبان تنعكس على من يقع عليه الاختيار، وكنا قد عرضنا للنذور التي يلتزم بها طالب الرهبنة حال قبوله راهباً؛
* البتولية.
* العزلة.
* الفقر الاختياري.
* النسك.

ويتوزع وقته بين الصلاة وإتمام التزاماته الروحية وفق مشورة الأب الذي يتتلمذ عليه، وبين العمل بما يكلف به وفق ترتيب الدير، حتى لا يصاب بالضجر، وقد تطورت الأعمال التي تسند للراهب، التي كانت في بدايات الرهبنة وفق سيرة الآباء المؤسسين، أعمالاً بسيطة كعمل السلال ومنتجات الخوص ثم تطورت مع الزمن لتصبح أعمال الزراعة واستصلاح الأراضي، وتربية الدواجن والماشية، وإعمال التصنيع الزراعي. وبجوارها كان بعض الرهبان يُكلفون بنسخ المخطوطات التي تطورت إلى تحقيقها وطباعتها بتطور واستحداث آلات الطباعة، إضافة إلى ما يقوم به رهبان الدير من تأليف وترجمة وطباعة الكتب المعاصرة.

وتعد التلمذة هي سر بقاء الرهبنة وانتقال قيمها وخبراتها من جيل إلى جيل، والتلمذة ليست فقط على التعاليم بل هي “تلمذة معايشة” ونقل خبرة الحياة في المسيح، التي هي غاية الراهب عندما يقصد الرهبنة، ولعلنا نجد ما يؤكد ذلك في قصة القديس أنطونيوس مؤسس الرهبنة، الذي انشغل فكره وقلبه بتبعية المسيح عندما سمع الآية:

«قَالَ لَهُ يَسُوعُ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلاً فَاذْهَبْ وَبعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي».

(إنجيل متى 19: 21)

الرهبنة بهذا المنظور سعي للكمال باتباع الرب يسوع المسيح، بغير مزاحمة.

التلمذة في الرهبنة هي معبر وممر يصل بالراهب إلى التلمذة للمسيح، وعلامتها:

“بِهذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضًا لِبَعْضٍ”.

(إنجيل يوحنا 13: 35)

التلمذة في الجماعة الرهبانية مشروطة بالترك:

وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ بُيُوتًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَدًا أَوْ حُقُولًا مِنْ أَجْلِ اسْمِي، يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ وَيَرِثُ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ.

(إنجيل متى 19: 29)

التلمذة تعني وجود مدبرين شيوخ يملكون نعمة العطاء ويجد الرهبان عندهم ما يبني حياتهم الروحية وما يعينهم على مواجهة الحياة في البرية ومتاعبها وحروبها، حتى يكتمل تكوينهم الذهني والروحي.

الارتباكات التي طالت منظومة الرهبنة في العقود السبعة الأخيرة انعكست على الحياة الديرية وانعكست على مخرجاتها، فرغم وجود النذور الرهبانية إلا أنها لم تعد منضبطة.

* فالعزلة كسرتها شبكة الطرق التي امتدت حتى أبواب الأديرة، والعمران الذي زحف إلى تخومها، وتطور وسائل النقل.
* والسكون والاختلاء تهددهما الرِّحْلات اليومية التي تقتحم الأديرة وما تحمله من صخب وضغوط تهدد المكان الحجر والبشر.
* ومعادلة العبادة والعمل اختلت بفعل التوسع في الاستزراع والتصنيع الزراعي والمشروعات المكملة وكلها تستنزف وقت ويوم الراهب.
* والتلمذة كادت تختفي باختفاء الشيوخ، وبتركيز كل الخيوط في يد أسقف الدير، ومعايير الاختيار من بين الرهبان للأسقفية تفتقر للانضباط والتدقيق، يكفي أن يكون رئيس الدير راضياً عمن يقدمه لأولي الأمر، فيما يتم التغاضي عن نضجه الروحي والنفسي والذهني، وكيف ينضج وهو لم يمكث في الدير مدّة كافية لاكتمال تكوينه.

وكنا قد أشرنا إلى تجرِبة مدرسة الرهبان التي لم تدم طويلاً وأغلقت مع مطلع الستينيات من القرن المنصرم، (1929ـ 1961م)، تاركة خلفها العديد من علامات الاستفهام المعلقة بغير إجابة، وفي مرحلة لاحقة استعيض عن التلمذة اللاهوتية والروحية بالتهليل لرهبنة حملة الشهادات الجامعية في تخصصات مدنية خاصة فيما يسمى بكليات القمة، وكان لها انعكاسات سلبية على إدارتهم لإيبارشياتهم أو المهام الموكلة لهم في دوائر الأسقف العام، لعل أبرزها الاعتداد بالرأي وعدم قَبُول المشورة من شيوخ الكهنة وحكماء الرعية. وانتقال الولاءات من الكنيسة للأشخاص، ومازال النزيف مستمراً.

* هل خفوت أو أفول التلمذة مرده إقامة اسقف لكل دير؟ فيصير هو وحده مصدر التعليم والتلمذة، مع العلم بأن الأديرة القديمة لم يكن لها أسقف بل كانت تُلحق بإحدى الإيبارشيات لتوفير مصدراً يغطي احتياجاتها، فيما يدير الدير راهب لا تزيد درجته الكهنوتية عن “قمص”، ويمكن تغييره بآخر حال مرضه أو إخفاقه في حفظ سلام الدير.

* أم أن خفوت وأفول التلمذة سببه الرهبان أنفسهم في أجيال معتدة بنفسها ولا تهتم بالتكوين الذاتي ولها في الرهبنة مآرب أخرى؟

خريطة الأديرة نفسها بحاجة إلى إعادة فحص وإعادة ترتيب، فلدينا أديرة متخمة بالموارد فيما تئن أديرة أخرى من شظف العيش، بالكاد توفر الحد الأدنى لاحتياجاتها، لذا تسعى لجذب الرِّحْلات إليها وتتحمل ما تجلبه معها من صخب ومتاعب للمكان وللرهبان، لذا فالكنيسة بحاجة إلى شجاعة إعادة ترتيب المنظومة المالية للأديرة بحيث تفصل بين ملكية الدير للمشروعات وبين إدارتها، وتنشئ الكنيسة مجلساً أعلى للرهبنة، يحق له جمع إيرادات الأديرة المنتجة في صندوق مركزي، وتعيد توزيع حصيلته على كافة الأديرة كل حسب احتياجه. وهو أمر سيخفف عن الأديرة أعباء كثيرة.

ولعل مجلس الرهبنة المقترح يدرس توفير آلية لإعداد الرهبان قبل رسامتهم أساقفة بما يتفق واحتياجات الكنيسة والأجيال الجديدة التي تتعامل مع وفرة المعلومات عبر وسائل وتقنيات الثورة الرقمية وتحاصرهم وتكاد تقتنصهم خارج دوائر الإيمان.

راحة وسلامة الكنيسة وقدرتها على أداء رسالتها تبدأ من الأديرة.

ويبقى السؤال:
أيها الأسقف من أنت؟!

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: أيها الأسقف.. من أنت؟[الجزء السابق] 🠼 أيها الأسقف.. من أنت؟ [١٤]
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨