السينما ليست منتجا تجاريا فارغا كما هو شائع، بل مليئة بالفلسفة؛ فهي تتفرد وحدها بالقدرة على إثراء عقول أعداد غفيرة من الناس في وقت قصير، بشكل تتضافر فيه مختلف الأدوات الفنية؛ فهي مزيج فريد للموسيقى، والرقص، والتصوير، والحوار تندر مصادفته. لقد قدم الفلاسفة القدماء أفكارهم ومحاورتهم في صيغة مسرحيات، وقصص، وأشعار، لكنها لم تنل تلك المكانة الشعبية واللانخبوية التي حظيت بها السينما. لذلك، إليك خمسة أفلام تناولت أهم الأسئلة التي تدور في أذهاننا عن الحياة.

 

اثنا عشر رجلًا غاضبًا Twelve Angry Men

Twelve Angry Menإذا قلت إن هذا الفيلم هو أفضل أفلام السينما العالمية على الإطلاق، لما بالغت. نعم، نحن أمام تحفة إبداعية وإعجازًا سينمائيًا بكل المقاييس؛ يعتمد الفيلم على حوار يخلو من أي مشاهد خارجية أو حتى موسيقى تصويرية، فالفيلم يدور في غرفة صغيرة تحوي اثنا عشرة رجلًا من هيئة المحلفين وهم مجتمعون لتقرير مصير شاب متهم بالقتل.

يناقش العمل قضية العدالة في أعمق صورها ويطرح تساؤلات عدة: هل القضاء البشري عادل حقًا؟ وهل يحق لنا إعدام شخصًا قد ثبت جرمه أمامنا؟ وهل يمكن أن تكبل آراؤنا وتحيزاتنا الفكرية أيدي العدالة؟ وهل ما نراه هو حقًا حقيقة الواقع أم غشاوة الخيال؟ يسترسل الحديث في مجراه الطبيعي بإجماع المجتمعين على أن المجرم مذنب ويستحق الإعدام شنقًا، إلى أن تتحرك رغبة الحديث في أحدهم ليرفع يده قائلًا إن الأمر ليس كما يبدو واضحًا للكل!

 

ترومان شو The Truman Show

The Truman Showهو ضمن الأفلام الفكرية التي تكشف الستار عن ذلك الجمال المحتجب وراء الشك والإيغال في عالم البحث عن المعنى. يكتشف () فجأةً أن حياته كلها بل والمدينة ذاتها التي يقطنها ليسا سوى جزءًا من عرضًا تليفزيونًا يشاهده الملايين حول العالم، وسرعان ما يأخذه المضض لانخداعه وعجزه أكثر مما يأخذه السرور لشهرته. يتبع “ترومان” المذهب الديكارتي في الفلسفة المبني على معرفة الحقيقة بواسطة النور الطبيعي: يرى “ديكارت” أن المخ البشري أشبه بصندوق إذا وضعت فيه بعض الثمار الطازجة مع ثمار أخرى فاسدة، سرعان ما سينتشر العفن ليدمر الثمار الطازجة، لذلك لضمان سلامة الصندوق، يجب عليك أن تفرغ الصندوق تمامًا وتفحص كل ثمرة على حدة وتعيد الثمار الطازجة فقط إلى الصندوق.

وهكذا يبدأ “ترومان” بالشك في بواطن الأشياء جميعها، ويفرغ عقله من كل المسلمات، ويرسل بصره إلى الأفق العميق باحثًا عن الحقيقة بواسطة النور الطبيعي، والمعرفة التجريبية. ولا يلبث أن يزداد اللغز ألغازًا، لكنه يستمر في رحلة استقصائه الوجودي، حتى لو كاد بحثه أن ينهي حياته. وتتخلل تلك العملية من تعرية الذات وصلة لا بأس بها من الألم والشقاء، فالتخلي عمّا تعرفه ليس سهلًا. ولكن ترى ماذا سيفعل مخرج العمل، الذي رمز للخالق المتحكم في حياة “ترومان” ومدينته بأكملها؟ هل سيغضب من ثورة ترومان الفكرية أم سيقوده في عملية البحث؟ هذا ما ستعرفه بمشاهداتك الفيلم.

 

الإشراقة الأبدية لأصحاب العقول الفارغة Eternal Sunshine of the Spotless Mind

Eternal Sunshine of the Spotless Mindهل حقًا النسيان نعمة كما يقولون؟ نعم، يبدو لك الأمر كذلك، فكم تتمنى أن تأخذ دواءً ينسيك جراح الماضي وعلاقاتك الفاشلة والمواقف المحرجة التي تعرضت لها. لكن ألا ترى أن تلك الذاكرة هي معلمك الأمثل؟ لقد صدع الفلاسفة رؤوسهم بغية الإجابة عن ذلك السؤال الخاص بأزمة الهوية؛ ما الذي يوحد هوية الإنسان على الرغم من كل التغييرات التي تطرأ عليه؟ ما الذي يخلع علينا الوحدانية والشخصانية ونحن نتغير من حال إلى حال؟

يخبرنا الفيلم أن الإجابة تكمن في الذاكرة؛ فالإنسان بدون الذاكرة مخلعًا مهلهلًا، لا يدري من هو وماذا تعلم من الماضي وكيف تغير من أمس إلى اليوم. يخضع بطلا الفيلم كلاهما على حدة لعملية جراحية لمحو الطرف الاَخر من الذاكرة بعد أن باتت العلاقة مستحيلة وبات الجرح عميقًا، لكن سرعان ما يلتقيان مجددًا وهم لا يذكران حياتهم السابقة.

 

!الأم Mother!

Mother!ربما تظنه أحد أفلام الرعب المعتادة، لكنه حقًا أبعد ما يكون عن ذلك بل أقرب إلى الأفلام الفكرية حيث يروي الفيلم قصة سيدة متزوجة من أحد الكتاب المشهورين، ممن يؤثرون عملهم على كل مناحي الحياة الأخرى. وتعاني الزوجة من اهتمام زوجها الزائد بمحبيه؛ فهو لا يمنعهم من الدخول للمنزل في أي وقت، ويتهاون مع كل ما يقترفونه من أخطاء، حتى إنه لا يجد غضاضة في أن يقوم معجبوه بدك منزله رأسًا على عقب. أما المحبون، فهم يدهشون من تسامح الكاتب معهم، ويعدونه بأن يكفوا عن أفعالهم الساذجة، لكنهم سرعان ما يعاودون عمليات التقويض كمن أصابهم مس جنون.

ستضحك على مفارقة الموقف الذي يجسد لنا قصة الإنسانية الكبرى – قصة الطبيعة، والإنسان، والخالق. يستخدم الكاتب تقنية التشخيص لدغدغة مشاعر المشاهد في محاولة لإزالة الغشاوة عن أعيننا لندرك حجم ما نقترف من جرم إزاء كوكبنا الشقي، من خلال دمج رموز الكتاب المقدس والميثولوجيا وعناصر الأدب الفيكتوري.

 

فندق جراند بودابيست The Grand Budapest Hotel

سينما.. ذات فلسفة 5يقدم الفيلم قصة “مسيو جوستاف” مدير فندق جراند بودابيست، وهو رجل أرستقراطي، غريب الأطوار، يثير الاهتمام بغرابة سلوكه وبشذوذه عن المألوف؛ فهو يحيا في زمن غير زمنه، ويجد لذته في حفظ أبيات الشعر القديمة، وفي قضاء الوقت مع حبيبته “مدام دي”، التي تكبره بأكثر من عشرين عامًا، ويتناول وجبات زهيدة لأنه يفضل أن يستبقي أمواله لشراء العطور الفرنسية المميزة. وفي يوم من الأيام، تسعفه المصادفة بأن يلتقي بشاب لاجئ، أسود البشرة يدعى “زيرو”. وبعد لقاء مباغت، يعينه “جوستاف” نادلًا للفندق وخادمًا شخصيًا له، ومن هنا تنبسط قصتهم – قصة الوفاء والحرب.

تدور أحداث القصة في وقت بداية الحرب النازية، التي هي بمثابة البوتقة التي لا تلبث أن تخرب كل ما هو جميل، لكن الجمال يظل كائنًا في تلك الصداقة العجيبة بين الخادم وسيده؛ ففي ذلك الوقت المشحون بالصراعات السياسية، ومصالح الدول، والنزعات العرقية وعبث الحرب، يرسل الصديقان زفرة قائلين إنما الإنسان يريد فقط صديقًا يعيش لأجله.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

سينما.. ذات فلسفة 7
[ + مقالات ]