إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِيكُمْ يَظُنُّ أَنَّهُ دَيِّنٌ، وَهُوَ لَيْسَ يُلْجِمُ لِسَانَهُ، بَلْ يَخْدَعُ قَلْبَهُ، فَدِيَانَةُ هذَا بَاطِلَةٌ. اَلدِّيَانَةُ الطَّاهِرَةُ النَّقِيَّةُ عِنْدَ اللهِ الآبِ هِيَ هذِهِ : افْتِقَادُ الْيَتَامَى وَالأَرَامِلِ فِي ضِيقَتِهِمْ، وَحِفْظُ الإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِلاَ دَنَسٍ مِنَ الْعَالَمِ.

(رسالة يعقوب 1: 26، 27)

بنهاية الإصحاح الأول من رسالة القديس يكون الوحي المقدس قد قدم من زوايا متعددة كيف يكون التأسيس الإلهي للمسيحية في قلب الإنسان بكونه عمل إلهي بواسطة ”كلمة الله“ المغروسة في قلوب لحمية وليس بعد في ألواح حجرية  (راجع المقالات السابقة). لذلك فإن آيات ختام الإصحاح الأول تأتي حارسة لذلك التأسيس ضد خداع النفس.

الآية (26) درج استخدامها في الوعظ على المنابر لتدعيم التدبير النسكي بضبط الفم بينما النص الكتابي يحمل زخماً أعمق وأغني من ذلك المعني بكثير.

فالآية تحذر من كثرة الكلام عن الروحيات كتعويض وتغطية لخواء القلب من العمق الروحي، بالتالي فهي تحرس الإنسان من الظن أن هذا هو التدِّين بينما هو خداع النفس. ثم يضع الوحي المقدس تدبيره الثاني للسائرين في طريق الملكوت للتأكيد على صدق الهدف الروحي، وذلك بأن يكون للحديث الروحي تَرْجَمَة ملموسة في عمل روحي يتضمن افتقاد النفوس وخدمة المحتاجين والمتضايقين، وأفضل مثال لهؤلاء هم اليتامى والأرامل.

وسرعان ما يأتي الوحي المقدس بتدبيره الثالث عن تنقية النفس من هذا الخداع في استخدام الكلام الروحي والعمل الروحي كما شرحنا، وقد سبق للرب أن أشار إلى هؤلاء بأنهم فاعلي إثم.

«لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذلِكَ الْيَوْمِ: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ، وَبِاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ!

(متى 7: 21- 23)

فإن عدد (27) قد جاء بآية حاكمة تستعلن ضرورة جهاد النفس ”حِفْظُ الإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِلاَ دَنَسٍ مِنَ الْعَالَمِ“. ومعروف أن كلمة الإنجيل فاحصة وكاشفة لأي زَيف يهدد طريق الروح سواء من خداع النفس أو من أطماع الجسد في هذه الدنيا.

“لأَنَّ كَلِمَةَ اللهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ النَّفْسِ وَالرُّوحِ وَالْمَفَاصِلِ وَالْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ الْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ.”

(رسالة بولس إلى العبرانيين 4: 12)

هكذا وفي نهاية الإصحاح الأول من رسالة يعقوب الرسول يلخص الوحي المقدس منهج الروحانية المسيحية بأنها مستيكية/ باطنية وأن كل نشاط الإنسان في  الطريق الروحي مِن مظاهر خارجية هو بهدف اللقاء القلبي الصادق مع الإله الحق الذي سكن القلب هيكلاً  له.

”اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي، وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وَأَنَا أُحِبُّهُ، وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي”

“إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلًا”. 

(إنجيل يوحنا 14: 21 و23)

في ختام مقالاتنا في الإصحاح الأول من رسالة يعقوب الرسول يتضح لنا أن منهج الروحانية الأرثوذكسية من جهة مفهوم الجهاد والنعمة يرى أن أعمال الإنسان الروحية من جهاد النفس والخدمة هي فيض لسكنى للقلب الذي انفتح للمسيح. وأن جهاد الإنسان وأعماله ليست لاستحداث وجلب النعمة بل للبقاء في النعمة، فالنعمة كما استعلنها الرب لنا هي عطاء الرب لذاته وسكنى الثالوث القدوس لقلب الإنسان بالتالي فالنعمة مجانية لا ثمن يعدلها لأنها عطاء الرب لذاته

“لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي”.

(إنجيل يوحنا 10: 18)

فالمسيحية ليست جهاد ضد الخطية بقدر ما هي جهاد للتمسك بالنعمة، الضمان الوحيد للنصرة على الشرير والخطية.

والسُبح لله

بقلم د. رءوف إدوارد

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

خداع النفس في مسيرة الروح 1
[ + مقالات ]