تشتهر كنيسة الإسكندرية "القبطية الأرثوذكسية، بلقب "أم الشهداء"، وهو لقب لم يطلق من فراغ بل نظرا لعدد من قدمتهم الكنيسة من شهداء لم يتنازلوا عن إيمانهم طوال تاريخها، وأخرهم شهدائها في ليبيا المقتولين على يد تنظيم داعش الإرهابي في فبراير 2015م، ويشير تاريخ الكنيسة إلى تعرضها لموجات من الاضطهاد طوال الحِقْبَة الرومانية وما بعدها، ولعل أشهر ما تتحدث عنه رواية الكنيسة هي موجة الاضطهاد في نهاية عهد الإمبراطور دقلديانوس (284- 305م) ومن وقتها بدأت الكنيسة تقويم الشهداء باستخدام الشهور المصرية القديمة مع التقويم اليولياني، لكن لم يتحدث أحد على الفترات التي تكون للكنيسة اليد العليا كما في مشكلة الكنيسة الرسولية، قرية الغريزات، بمحافظة سوهاج جَنُوب مصر.
بالرغم من تعاليم المسيح البعيدة كل البعد عن العنف ومقاومة الشر بالشر، إلا أن الطبيعة البشرية تظهر اختلاف التصرفات عندما تتبدل المقاعد في لُعْبَة الكراسي الموسيقية بين أن تكون أغلبية وأقلية، لما كانت الكنيسة في مَقْعَد الأقلية المستضعفة بعدم الاعتراف بها ضمن الديانات المسموح بها في الإمبراطورية الرومانية تعرض المسيحيين للاضطهاد، لكن مع مرسوم التسامح الديني للإمبراطور قسطنطين سنة 313م الذي اعترف بالمسيحية كديانة شريعة ومن بعد منه حفيده ثيؤدثيوس الأول (379- 395م) الذي أعتبر المذهب الأرثوذكسي الكاثوليكي (إيمان آباء مجمع نيقية) هو الديانة الرسمية للإمبراطورية، أخذ بابا الإسكندرية ثيؤفيلوس رقم 23 مراسيم من الإمبراطور لاضطهاد اليهود والوثنيين في الإسكندرية، وهنا ظهر وجه جديد للكنيسة معاكس تمامًا لتعاليم المسيح.
غير خفي أن المواطنين المصريين المسيحيين عانوا من تضييق شديد على بناء الكنائس منذ سبعينيات القرن الماضي حتى سنوات قليلة مضت، قبل أن تتخذ الدولة نسق آخر بتشريع قانون لبناء الكنائس ومعه بدأ تقنين وضع الكنائس القائمة لمختلف الطوائف المسيحية في مصر دون ترخيص، وقد عانى الأقباط ليناء الكنائس في مختلف محافظات مصر وخصوصا المنيا التي شهدت توترات طائفية كثيرة بسبب بناء كنيسة في قرية هنا أو هناك.
بعد أن انصلح الحال، أصبح المسيحيون يمارسون التضييق على بعضهم البعض، ففي فبراير 2018م حدث نزاع بين الأرثوذكس والإنجيليين في قرية بني سلطان بمحافظة المنيا، على مبنى كنسي من المفترض أنه كنيسة إنجيلية، وفي 26 أبريل 2017 أصدرت المحكمة حكمها باستخدام المكان كقاعة مناسبات لجميع الطوائف الأرثوذكسية، الإنجيلية، والرسولية ولا يسمح لأي طرف من الأطراف المتنازعة أن يتصرف في المكان بمفرده، لكن قرر الأرثوذكس باعتبارهم أغلبية في هذه الواقعة ولهم الغلبة أن يأخذوا المكان لصالحهم.
في المنيا تحديدا عانى الأقباط في بناء كنائسهم، ووقت موجة الإرهاب بعد 14 أغسطس 2013، كانت المنيا من أكتر المحافظات التي تضررت فيها الكنائس والمباني التابعة للكنائس، وأشهر كنيسة تعرضت للاعتداء كانت كنيسة مار جرجس للأقباط الكاثوليك بقرية دلجا، لكن بدلا من أن يتذكر الأقباط جميعهم أنهم عانوا معا تلك الأحداث بمجرد أن تحسن الوضع بدأ الأرثوذكس باعتبارهم الأغلبية المسيحية بمضايقة الإنجيليين لأنهم الأقل منهم عددا وممارسة الاستقواء على بعض متناسين تعاليم المسيح “من طلب رداءك فاعطيه ثوبك أيضا”.
ويتكرر الأمر هذه الأيام في قرية الغريزات بمركز المراغة في محافظة سوهاج خلال هذه الأيام، وفي هذه الموقف يتصدر رجل مسن بعمر 87 عاما مرتديا الزي الأسود الرهباني المشهد، محرضا ضد إعادة بناء الكنيسة الرسولية بالقرية التي حصلت على تصاريح بالهدم وإعادة البناء من الجهات المختصة، فبدلا من أن يكون هذا الراهب في ديره، وفق نظام الرهبنة القبطي الذي لا يسمح للرهبان في الخدمة خارج الدير إلا بأوامر من قيادة الكنيسة، فإنه خارج الدير منذ سنوات عدة ويعيش على حسب هواه في القرية.
ووفقا لبعض المصادر من القرية ممن حاولوا التواصل مع الكنيسة القبطية في المراغة، كان الرد بأن هذا الراهب تارك لديره ولم يعد راهبا بعد، وليس للكنيسة سلطة عليه، في حين أنه يرتدي الزي الرهباني والجميع يتعامل معه باعتباره راهب كاهن، وبدلا من أن تأخذ الكنيسة القبطية في المراغة موقفا رافضا لتصرفات تتسم بالبلطجة وأن تدعوا شعبها لعدم الاستجابة لهذه الدعوات المحرضة على الكراهيَة اكتفت بغسل ايديها منه فقط.
بالرغم من تعاليم المسيح الواضحة التي تدعي الكنائس السير عليها وتطبيقها، وكل كنيسة تدعي أنها صاحبة الإيمان القويم والأصيل المُستلم من المسيح وتلاميذه وأنها الحافظ لهذا الإيمان، فإنه في وقت الجد تظهر الطبيعة البشرية، وتتبدل التصرفات وفق تبدل المَقْعَد بين الأغلبية والأقلية، ولا يبدو لتعاليم المسيح أي وجود في تصرفات من يطلقون على أنفسهم إنهم أتباعه أو خلفاء تلاميذه.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
باحث وكاتب صحفي متابع للشأن الكنسي وشؤون الأقليات.
زميل برنامج زمالة الأقليات- مكتب المفوض السامي لحقوق لإنسان- الأمم المتحدة، جنيف/ ستراسبرج 2023.
زميل برنامج "الصحافة للحوار" مركز الحوار العالمي (كايسيد) لشبونة 2022.