المقال رقم 7 من 16 في سلسلة أيها الأسقف.. من أنت؟
كان يوما حافلاً ومبهجاً ومرهقاً في آن، يومها قصدنا أسيوط المدينة، لترتيب إقامة ابنتي التي ذهب بها مكتب التنسيق إلى كلية الهندسة، وصلنا مع تباشير الصباح، وكان لنا جولة بين بيوت الطالبات المختلفة، قبل أن ننجح في إيجاد مكان لها في المدينة الجامعية، وكانت خبرة رائعة، حيث الحزم والانضباط والمتابعة المتميزة من منظومة إدارتها.

انتصف النهار وتواصلنا مع صديقة للأسرة، أسيوطية، المرنمة التي تخدم اجتماع أبينا المَطْرَان الأنبا ميخائيل، صوتها أكثر من رائع، زادته طلاوة لهجتها التي أعادتنا إلى بيتنا الكبير ودفء الجَنُوب، استقبلتنا بحفاوة ليست بغريبة عن أهلنا، ما كدنا نجلس حتى “رن” جرس التليفون الأرضي، لم يكن المحمول قد صار في كل يد وقتها، حسب نبوءة ـأو قل رؤيةـ رجل الأعمال المصري مهندس نجيب ساويرس، نظرت إلينا مدام سارة بدهشة، كان على الجانب الآخر الأنبا ميخائيل، أخبرته بوجودي، فطلب منها أن أذهب لمقابلته في كنيسة المطرانية… “للموعودين” كان تعليقها العفوي.

كان اللقاء في صحن الكنيسة العتيقة، قيل لي إن أبينا المَطْرَان سيأتي خلال دقائق، كنت وحدي في الكنيسة كانت الأضواء مطفأة، فيما تتسلل بعض من أشعة الشمس من نوافذها لتنقلك مع أيقوناتها إلى أجواء القرن الرابع، وكأنه أراد أن يستكملها، فعلى غير توقع لمحت شبحاً يخرج من الهيكل، وله باب خلفي يفضي إلى مقر إقامة الأب المَطْرَان.

خرج متدثراً في شال يشبه ذاك الذي كان يرتديه جدي، وحين اقترب مني اكتشفت أن أبونا المَطْرَان لم يكن يمسك عصا، فقط صليب خشبى بسيط؛ يا رب سلام، كانت تحيته، أهلاً بالكاتب العنيد، جلس بجواري على “الدكة” ورغم أنها المرة الأولى التي التقيه فيها إلا أن الأُلفة كانت حاضرة، اكتشفت فيه قارئاً ومتابعاً مدققاً، ناقشني فيما أكتب بالتاريخ والعنوان والمضامين، سألته في إشكاليات وأزمات الكنيسة وأجابني بموضوعية وترتيب، ومحبة غامرة للكنيسة وثقة بأن للتاريخ دوراته وأحكامه.

سألته لماذا تبقى بعيداً وأنت شيخ المجمع وحكيمه، أجاب بإيجاز وحسم، أشفق على صقور الفضاء الافتراضي الورقية، ولجانهم الإلكترونية من قراءة رؤيته ورأيه، لذلك سأكتفي بما تحتمله اللحظة، قال: “أنا مُحمَّل بخدمة ورعاية مدن وقرى إيبارشيتي، التي سأعطي عنها حساباً، وهي عبء ثقيل، لا يحتمل كاهلي الذي ينوء به أن أضيف عليه”.

لم يذهب أبونا المَطْرَان بعيداً عن قوانين الكنيسة، وحصافة الكبار، وخبرة السنين، لكنني توقفت كثيراً أمام كلماته وموقفه، ف الأرثوذكسية كنيسة مجمعية وليست بابوية، بمعنى أن قراراتها التدبيرية تصدر عن مجمع أساقفتها ويلتزم بها كل المطارنة والأساقفة حتى من صوت ضدها داخل المجمع، وقد ذهبت قوانين الكنيسة المسكونية والمكانية إلى قطع الأسقف من درجته ومن الشركة إذا أثار الشغب والعصيان في إيبارشية أخرى في سعيه لاغتصابها، فيما يعرف بصراع الكراسي، بل ونصت أيضاً على “أنه لا يجوز لأسقف أن ينتقل إلى كرسي آخر تاركاً كرسيه، ولا أن يهمل العناية بإيبارشيته لاهتمامه بأشغاله الخاصة”. وفي قانون أخر “أي أسقف أو قس أهمل الإكليريكيين أو الشعب ولم يدربهم في سبل التقوى فليُقطع من الشركة، وإذا داوم الإهمال والكسل فليُسقط”.

ويمكن لمن يريد التعرف باستفاضة على كل ما يتعلق بهذه القوانين الرجوع إلى أحد أهم المراجع التوثيقية “مجموعة الشرع الكنسي” التي صدرت ترجمتها العربية ضمن “” التي تنشرها كنيسة أنطاكيَة “الأرثوذكسية”، وهو يضم مجموعة القوانين الكنسية التي سنتها المجامع الرسولية والمجامع المسكونية (السبعة) ـمع الانتباه إلى أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لا تعترف إلا بأربعة منها هي (325م)، مجمع القسطنطينية الأول (381م)، مجمع أفسس الأول (431م)، (449م) ـ ويضم هذا المرجع أيضاً قوانين المجامع المكانية والقوانين الآبائية مع تعليقات تفسيرية عليها. وسيجد ضمنها فيضاً من القوانين التي تحكم عمل ودور ومسئوليات الأسقف، في إيبارشيته، وصلاحيات وحدود تعامله ـوتصرفه ـ في أموال إيبارشيته، وعلاقاته بالإيبارشيات الأخرى، ومنعه من اغتصابها أو انتقاله إليها ومنع تدخله في شئونها، بل وتتعرض أيضاً لضوابط إسقاطه من رتبته، كذلك استقالته من عمله الأسقفي التدبيري.

وأعتقد أن سعي ال في مأسسة الكنيسة، والانتقال في إدارتها من الفرد إلى المؤسسة، لن يكتمل إلا بالبدء في توثيق القوانين الكنسية، اللاهوتية والتدبيرية، التي تقرها الكنيسة بشكل أكاديمي يُشكل له لجنة كنسية تاريخية لاهوتية من آباء وعلماء وأرخنة الكنيسة، وجمعها في دستور كنسي يعتمده مجمع الآباء الأساقفة ومجمع الأراخنة. ليضع نقطة في أخر سطر الجدل والارتباك والشخصنة التي يصنعها من يقلقون الكنيسة إما لضحالة فكرهم أو لتحقيق غايات شخصية ضيقة.

ولعل الكنيسة تلتفت لما استجد من قضايا لم تكن مثارة قبلاً، أو لعلها نتجت عن التطورات التي لحقت بمنظومة الخدمة التي امتدت إلى خارج مصر، في كافة قارات العالم، التي قابلتها الكنيسة برسامة أساقفة في البلاد التي تشهد حضوراً مصرياً مسيحياً، وتأسيس أديرة ببعضها.

ـ فماذا عن الأجيال التالية لجيل الآباء المؤسسين؟
ـ وماذا عن طبيعة العلاقات المؤسسية مع كنائسنا بالخارج بعد أن تصبح تلك الأجيال المزدوجي الانتماء هي الموجودة حصراً بها؟
ـ وماذا عن سعي بعض أساقفة الداخل المصري لتبرير سفرهم المتكرر لتلك البلاد خاصة في أوروبا وأمريكا بعد أن صارت إيبارشيات لها أساقفتها؟
ـ هل تشهد الكنيسة تنظيماً متطوراً يفرضه واقعها الجديد، كتشكيل مجامع أسقفية إقليمية قارية أو مكانية هناك حسب كثافة الرعية فيها؟ وحدود العلاقة بينها وبين تنظيمات الكنيسة الأم؟
ـ هل يمكن دراسة هُوِيَّة البابا بعد جيل أو جيلين، أم سيظل الاختيار محكوماً بالقواعد القائمة التي قد تدفع الكنائس القبطية بالخارج إلى الانفصال والاستقلال؟

أسئلة مشروعة تنتظر إجابات هادئة ورؤية موضوعية.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: أيها الأسقف.. من أنت؟[الجزء السابق] 🠼 أيها الأسقف.. من أنت؟ [٥][الجزء التالي] 🠼 أيها الأسقف.. من أنت؟ [٧]
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨