المقال رقم 6 من 16 في سلسلة أيها الأسقف.. من أنت؟
كنت في السنة النهائية في مرحلة البكالوريوس، حين أعلنت الكنيسة اختيار البابا الجديد، وحددت موعد تجليسه، وكم كانت فرحتنا غامرة، لفيف الشباب الجامعي وقتها، ونحن نهنئ انفسنا بعهد جديد يترجم الصورة النموذجية للكنيسة التي رسمها اسقف التعليم في سطوره الملتهبة في مجلة "الكرازة" وقبلها في مقالاته الثورية التي لا تنقصها الجرأة في مجلة "" حتى لحظة دخوله الدير قاصداً الرهبنة.

14 نوفمبر 1971 كان يوماً فارقاً حرصنا على متابعته بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية والتي كانت وقتها تحت الإنشاء، وقد انتهت فيها الإنشاءات الخرسانية وتتهيأ للتشطيب، كان حدثاً مهيباً، شارك فيه وفود من الكنائس الشقيقة، وشاركوا في صلوات التجليس كل بلغته، فتناغمت الأمهرية واليونانية والسريانية مع القبطية والعربية.

كانت البداية طابور طويل من الشمامسة يتقدم الآباء المطارنة والأساقفة يحيطون بالأسقف المزمع إقامته بطريركاً، يقطع المسافة بين الكلية الإكليريكية والكاتدرائية، يردد الألحان الكنسية، ويتوقف أمام باب الكاتدرائية الموصد، يتقدم الأنبا أنطونيوس والذي اختير ليتولى مهام القائمقام، ويقول بصوت جهوري موجهاً كلامه للأب الأسقف المختار “تسلم مفتاح كنيسة الله المقدسة التي أقامك عليها لترعى شعبه وتغذيه بالتعاليم المحيية، وقد إئتمنك على نفوس الرعية ومن يديك يطلب دمها“، فيرد بصوت خاشع “افتحوا لي أبواب البر لكى ادخل فيها واعترف للرب هذا هو باب الرب والصديقون يدخلون فيه اعترف لك يا رب لأنك استجبت لي وصرت لي مخلصاً” وهى كلمات من المزمور 118 بحسب الترجمة القبطية.

ثم يفتح باب الكنيسة ويواصل الموكب مساره حتى يصل إلى مقدمة الكنيسة وتتواصل صلوات التجليس التي تعلن فرح الكنيسة بافتقاد الله لها في إقامة أب بطريرك يواصل مسيرة أسلافه في قيادة نفوس الرعية في طريق الأبدية والملكوت.

ـ ندعوك بابا الكرازة المرقسية بابا وبطريرك وسيد الكرازة المرقسية
ـ دعوناك يا أنبا شنودة بابا وبطريرك وسيد الكرازة المرقسية.
ـ تسلم تقليد رئاسة الكهنوت لسنين كثيرة وأزمنة سالمة هادئة مديدة
ـ نُجلِّس الأنبا شنودة رئيس الأساقفة على الكرسي الطاهر، كرسي الرسول الإنجيلي مرقس …
ـ نُجلِّس رئيس الرعاة الأنبا شنودة بطريركاً على كرسي القديس مرقس
ـ أجلسنا الأنبا شنودة بابا الإسكندرية وبطريركاً على الكرازة المرقسية الكرسي الرسولي، كرسي القديس مرقس الإنجيلي.

وتنبه الكنيسة الأب البطريرك مجدداً بما قالته له وهى تسلمه مفتاح الكنيسة:

ـ ارع رعية الله التي أقامك الروح القدس عليها لترعى شعبه وتغذيه بالتعاليم المحيية، وقد إئتمنك على نفوس الرعية ومن يديك يطلب دمها”.

نفس هذا التنبيه الصارم تردده الكنيسة في رسامة وتجليس الأساقفة، ويتبين لنا منه محور عمل الأسقف ودوره الأساسي في خدمته، ارع رعية الله، غذيها بالتعاليم المحيية، وتنبهه أن من يديه يطلب دمها.

ربما لهذا كان آباء البرية الواعون يهربون من قبول هذه الرتبة ـ الأسقفية ـ وفى أحيان كثيرة يقيدونهم بالحبال ويأخذونهم عنوة إلى حيث الرسامة، وهروبهم لم يكن من باب التواضع أو الهرب من مجد الرتب القيادية، إنما في ظني أنهم كانوا يستحضرون لحظة وقوفهم أمام الله في اليوم الأخير، وماذا سيجيبونه عندما يطلب منهم كشف حساب الرعاية؟

• عن الذين سقطوا أو انحرفوا أو هجروا دفء الكنيسة.
• وعن البيوت التي خربتها الكراهية وخرج منها سلام المسيح،
• وعن استغراق قد يبتلعهم فيغتصبون مجد الله لأنفسهم، أو يتشبهون بملوك وأمراء العالم، ويتحول سلطانهم الروحي إلى سلطة تُقصى وتُقَرّب بقياسات العالم.
• ماذا لو سئلوا عن تبديد فلسي الأرملة، وعطايا القادرين، في عيش مسرف، والذي غالباً ما يجد له تبريراً؟!
• أو عن انشغاله بكرامة المتكأ الأول وحقوقه، كما يظنها، وصراعاته مع المتطلعين إليه والمناوئين أيضاً؟!
• أو عن استدعائه لأدوات السياسة خارج سياجات الكنيسة ليوظفها في التدبير الكنسي، فتتفاقم متاعبه ومتاعب الكنيسة معه.

أذكر يوماً التقيت بأحدهم وكان مزهواً بتدقيقه في الطقوس وتفرده بطلاوة الصوت في الصلوات حتى أنه اشتهر بكروان ال، الأمر الذي ترجمه في التعامل بحدة مع الرعية، وحين سألته عن ما يبدو عليه من حزن رغم كل الأضواء التي تحيط به، راح يشكو أن الشعب لا يعطيه ما يستحقه من كرامة، وقبل أن ارد، واصل كلامه، هذا حقى الكتابي “الابْنُ يُكْرِمُ أَبَاهُ، وَالْعَبْدُ يُكْرِمُ سَيِّدَهُ. فَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَبًا، فَأَيْنَ كَرَامَتِي؟ وَإِنْ كُنْتُ سَيِّدًا، فَأَيْنَ هَيْبَتِي؟
فقلت له “هذا إجتزاء من سياق النص بل واغتصاب حق أصيل لرب الجنود ونسبته لك؛ دعنا نقرأ النص مكتملاً” ….

الابْنُ يُكْرِمُ أَبَاهُ، وَالْعَبْدُ يُكْرِمُ سَيِّدَهُ. فَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَبًا، فَأَيْنَ كَرَامَتِي؟ وَإِنْ كُنْتُ سَيِّدًا، فَأَيْنَ هَيْبَتِي؟ قَالَ لَكُمْ رَبُّ الْجُنُودِ. أَيُّهَا الْكَهَنَةُ الْمُحْتَقِرُونَ اسْمِي. وَتَقُولُونَ: بِمَ احْتَقَرْنَا اسْمَكَ؟ تُقَرِّبُونَ خُبْزًا نَجِسًا عَلَى مَذْبَحِي. وَتَقُولُونَ: بِمَ نَجَّسْنَاكَ؟ بِقَوْلِكُمْ: إِنَّ مَائِدَةَ الرَّبِّ مُحْتَقَرَةٌ. وَإِنْ قَرَّبْتُمُ الأَعْمَى ذَبِيحَةً، أَفَلَيْسَ ذلِكَ شَرًّا؟ وَإِنْ قَرَّبْتُمُ الأَعْرَجَ وَالسَّقِيمَ، أَفَلَيْسَ ذلِكَ شَرًّا؟ قَرِّبْهُ لِوَالِيكَ، أَفَيَرْضَى عَلَيْكَ أَوْ يَرْفَعُ وَجْهَكَ؟ قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ. وَالآنَ تَرَضَّوْا وَجْهَ اللهِ فَيَتَرَاءَفَ عَلَيْنَا. هذِهِ كَانَتْ مِنْ يَدِكُمْ. هَلْ يَرْفَعُ وَجْهَكُمْ؟ قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ

(ملاخي 1 : 6-9)

كانت النتيجة أنه قاطعني حتى رحل عن عالمنا!!.

كان السؤال الملح والذي يحاصرني ويطاردني منذ ذلك اليوم كيف يمكن للأب الأسقف، على الأقل في حدود إيبارشيته، أو كرازته، أن يتابع ويرعى رعيته، في عالم لم تعد الكنيسة هي المكون الوحيد لفكر وعقل ووجدان المرء، وقد ازداد الأمر تعقيداً مع التطورات المتلاحقة التي شهدها العالم بأسره، وضغوط الحياة خاصة في عالمنا الثالث، والتحديات التي تحاصرنا في بلادنا بشكل أكثر تحديداً؟ وهو في امتحان يومي ومتجدد، ويدرك وفق تنبيه الكنيسة له في رسامته أو تجليسه أنه سيعطى عنها حساباً.

يا الله … كم هو مهيب ومرعب الوقوف بين يديك …

أدرك الآن لماذا تلح الكنيسة على بنيها أن يصلّوا من أجل الرعاة، ولماذا تتنوع وتتشعب وتتصاعد الحروب الروحية ضدهم، وأتفهم معنى أنهم يخلصون كما بنار!!

أخشى أن أقارن بين الشرق والغرب في خبرات التطور الإنساني فيما يتعلق بما نتناوله هنا، حتى لا يختطفنا المتربصون إلى الجدل العقائدي ويعودون للتأكيد على ما وقر عندهم، أنهم الفرقة الناجية، وأن الملكوت لن يتاح لغيرهم، لذلك أدعوهم لمراجعة بساطة ملابسهم بما انتهينا إليه، وأن يقارنوا حضورهم محملين برسالة السلام يطرقون أبواب العالم خاصة في الدوائر المخالفة لهم سواء مذهبياً أو دينياً، فيما نصدّر في شرقنا السعيد خطاب الاستعلاء، ونصطحب معنا “حرومات” نوزعها على غيرنا بسخاء ولا نُعمِل فيها التحليل المنطقي والذي قد نكتشف به أن كثيرها ابن صراعات وقتها وكان للسياسة حضورها. وبعضها نتج عن اختلاف الثقافات وربما اللغات بين اللاتينية واليونانية. وهو ما كشفت عنه الدراسات الأكاديمية الحديثة.

هل نعيد النظر فى واقعنا الأسقفي وربما الإكليروسي بجملته، لنضبط إيقاعه ـ شكلاً وموضوعاً ـ على تكليفات الإنجيل لهم، مقتدين برب المجد وهو يقدم كشف حساب لله الآب في صلاته الوداعية في البستان:

حين كنت معهم في العالم كنت احفظهم في اسمك الذين اعطيتني حفظتهم ولم يهلك منهم احد الا ابن الهلاك ليتم الكتاب

(يوحنا 17 : 12)

ومازال للطرح بقية …

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: أيها الأسقف.. من أنت؟[الجزء السابق] 🠼 أيها الأسقف.. من أنت؟ [٤][الجزء التالي] 🠼 أيها الأسقف.. من أنت؟ (٦)
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨