المقال رقم 3 من 16 في سلسلة أيها الأسقف.. من أنت؟
يتفق الكتاب المقدس والتقليد (التَّرْجَمَةً الحياتية الكنسية التراكمية لتعاليم الإنجيل) في تعريف الأسقف، الصفات والمهام والاختيار، ولعل النقطة المفصلية في اقترابنا من هذه الطغمة الخادمة ما ذكره كاتب الرسالة إلى العبرانيين في سياق حديثه عن كهنوت المسيح:

وَلاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ هذِهِ الْوَظِيفَةَ بِنَفْسِهِ، بَلِ الْمَدْعُوُّ مِنَ اللهِ.

(رسالة بولس إلى العبرانين 5: 4)

والتكليف الأساسي حسب القديس لهم:

“أَطْلُبُ إِلَى الشُّيُوخِ (الأساقفة) الَّذِينَ بَيْنَكُمْ، أَنَا الشَّيْخَ رَفِيقَهُمْ، وَالشَّاهِدَ لآلاَمِ الْمَسِيحِ، وَشَرِيكَ الْمَجْدِ الْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ، ارْعَوْا رَعِيَّةَ اللهِ الَّتِي بَيْنَكُمْ نُظَّارًا، لاَ عَنِ اضْطِرَارٍ بَلْ بِالاخْتِيَارِ، وَلاَ لِرِبْحٍ قَبِيحٍ بَلْ بِنَشَاطٍ، وَلاَ كَمَنْ يَسُودُ عَلَى الأَنْصِبَةِ، بَلْ صَائِرِينَ أَمْثِلَةً لِلرَّعِيَّةِ. وَمَتَى ظَهَرَ رَئِيسُ الرُّعَاةِ تَنَالُونَ إِكْلِيلَ الْمَجْدِ الَّذِي لاَ يَبْلَى”.

(رسالة ى 5: 1-4)

وفى تأكيد على محورية الرعاية في مهام الأسقف يقول القديس بولس في كلمته الوداعية لكنيسة أفسس:

“إحْتَرِزُوا اِذًاً لأَنْفُسِكُمْ وَلِجَمِيعِ الرَّعِيَّةِ الَّتِي أَقَامَكُمُ الرُّوحُ الْقُدُسُ فِيهَا أَسَاقِفَةً، لِتَرْعَوْا كَنِيسَةَ اللهِ الَّتِي اقْتَنَاهَا بِدَمِهِ”.

(سفر أعمال الرسل 20: 28)

والسؤال هنا ما هي “الرعاية”؟ لعلنا نجد الإجابة في كلمة القديس بولس الوداعية التي توقفنا عندها هنا، وهي بمنزلة كشف حساب، وإبراء ذمة، قدمهما لرعيته؛ في كلمات موجزة وواضحة:

“أَنِّي ثَلاَثَ سِنِينَ لَيْلاً وَنَهَارًا، لَمْ أَفْتُرْ عَنْ أَنْ أُنْذِرَ بِدُمُوعٍ كُلَّ وَاحِدٍ. وَالآنَ أَسْتَوْدِعُكُمْ يَا إِخْوَتِي للهِ وَلِكَلِمَةِ نِعْمَتِهِ، الْقَادِرَةِ أَنْ تَبْنِيَكُمْ وَتُعْطِيَكُمْ مِيرَاثًا مَعَ جَمِيعِ الْمُقَدَّسِينَ. فِضَّةَ أَوْ ذَهَبَ أَوْ لِبَاسَ أَحَدٍ لَمْ أَشْتَهِ. أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ حَاجَاتِي وَحَاجَاتِ الَّذِينَ مَعِي خَدَمَتْهَا هَاتَانِ الْيَدَانِ. فِي كُلِّ شَيْءٍ أَرَيْتُكُمْ أَنَّهُ هكَذَا يَنْبَغِي أَنَّكُمْ تَتْعَبُونَ وَتَعْضُدُونَ الضُّعَفَاءَ، مُتَذَكِّرِينَ كَلِمَاتِ الرَّبِّ يَسُوعَ أَنَّهُ قَالَ: مَغْبُوطٌ هُوَ الْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ الأَخْذِ”.

(سفر أعمال الرسل 20: 31-35)

ويضع أمام أساقفته ـوأمامناـ تخوفاته التي استشعرها ربما بحدسه الروحي أو خبراته الرعوية أو بانفتاح ذهنه على طبيعة العلاقات والصراعات عندما تستقر أحوال الكنيسة وتتحول من دعوة إلى مؤسسة:

“لأَنِّي أَعْلَمُ هذَا: أَنَّهُ بَعْدَ ذِهَابِي سَيَدْخُلُ بَيْنَكُمْ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ لاَ تُشْفِقُ عَلَى الرَّعِيَّةِ. وَمِنْكُمْ أَنْتُمْ سَيَقُومُ رِجَالٌ يَتَكَلَّمُونَ بِأُمُورٍ مُلْتَوِيَةٍ لِيَجْتَذِبُوا التَّلاَمِيذَ وَرَاءَهُمْ. لِذلِكَ اسْهَرُوا”. 

(سفر أعمال الرسل 20: 29-31)

عمل الرعاية له هدف محدد اقترب منه القديس يوحنا التلميذ والرسول في رسالته الأولى:

“كَتَبْتُ هذَا إِلَيْكُمْ، أَنْتُمُ الْمُؤْمِنِينَ بِاسْمِ ابْنِ اللهِ، لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لَكُمْ حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلِكَيْ تُؤْمِنُوا بِاسْمِ ابْنِ اللهِ. وَهذِهِ هِيَ الثِّقَةُ الَّتِي لَنَا عِنْدَهُ: أَنَّهُ إِنْ طَلَبْنَا شَيْئًا حَسَبَ مَشِيئَتِهِ يَسْمَعُ لَنَا”.

(رسالة يوحنا الأولى 5: 13- 14)

لا أود أن يستغرقنا التنظير لنجد انفسنا في حالة تكرار لما استقر في أدبيات الكنيسة وفي وجداننا، لنعود إلى واقعنا وإشكالياته، خاصة في عالمنا الثالث وبالأكثر في كنيستنا القبطية الأرثوذكسية، وكنا قد أشرنا قبلاً إلى بدايات الأزمة التي أربكت ال مع اقتراب الإمبراطورية من الكنيسة بعد أن هدأت أجواء الاستهداف الوثني للكنيسة، واستقرارها، وانتباه الإمبراطور الروماني الداهية قسطنطين للتمايزات التي تميز المسيحيين، وقد تجلت في جسارة مواجهة الموت ليستثمرها في معاركه وتثبيت أركان إمبراطوريته، فراح يؤكد على رؤيته للصليب في كبد السماء وسماعه لصوت يقول له بهذا تنتصر، فيتخذه شارة يضعها على بيارق جيشه وسُرج جياده، وتتحقق مآربه، واللافت أنه بقى على وثنيته حسب مؤرخي عصره، وحين أعلن قبوله المسيحية إيماناً كانت معموديته على يد أسقف أريوسي، وقبيل وفاته بقليل. ومعه تشهد الكنيسة نقلة نوعية في نظمها ووضعية الأساقفة التي صارت تحاكى الأمراء، وزاحمت أحلامهم القومية والسياسية مهامهم الرعوية والتعليمية، وكانت الكلفة عالية من سلام الكنيسة ووحدتها، وارتبك وصفها بالواحدة الجامعة الرسولية، وتتلقى الكنيسة طوفان من الاستهدافات تتتالى بين الرومان والفُرس والعرب.

امتد مكوثنا في نفق العزلة، والانكفاء على الذات، لقرون باستثناءات فردية لم يكتب لها التواصل والمراكمة، حتى مطلع القرن التاسع عشر، حين باغتتنا اقتحامات التواصل مع الضفاف المقابلة للبحر المتوسط، كما أشرنا قبلاً، ويأتي النصف الثاني من القرن العشرين ليشهد حراكاً متعدد الاتجاهات، داخل الجماعة القبطية، كان العاصم لهذه الجماعة وسر بقائها توارث ال والتراث الطقسي الكنسي عن ظهر قلب، عبر الإنسان القبطي البسيط، كفتيلة مدخنة تنتظر من ينفخ فيها فتعود لتتوهج وتضيء يومها وغدها ومحيطها.

سر بقاء الكنيسة يرجع إلى تراثها النسكي، وكانت الشرارة الأولى عام 1948 حين طرق شابان، تخرجا لتوهما من الجامعة المصرية، أبواب الدير المقفر والمغلق على نفر من كهول الرهبان، كانت الدروب المؤدية للأديرة غير ممهدة والسكون يلف جوانبها، والعزلة كانت عنوانها.

رحب بهما أسقف الدير، الذي انتهت عنده رحلتهما، أيما ترحيب، ورآهما كسحابة قدر كف كالتي رآها تلميذ إيليا:

“وَأَمَّا إِيلِيَّا فَصَعِدَ إِلَى رَأْسِ الْكَرْمَلِ وَخَرَّ إِلَى الأَرْضِ، وَجَعَلَ وَجْهَهُ بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ. وَقَالَ لِغُلاَمِهِ: «اصْعَدْ تَطَلَّعْ نَحْوَ الْبَحْرِ». فَصَعِدَ وَتَطَلَّعَ وَقَالَ: «لَيْسَ شَيْءٌ». فَقَالَ: «ارْجعْ» سَبْعَ مَرَّاتٍ. وَفِي الْمَرَّةِ السَّابِعَةِ قَالَ: «هُوَذَا غَيْمَةٌ صَغِيرَةٌ قَدْرُ كَفِّ إِنْسَانٍ صَاعِدَةٌ مِنَ الْبَحْرِ». فَقَالَ: «اصْعَدْ قُلْ لأَخْآبَ: اشْدُدْ وَانْزِلْ لِئَلاَّ يَمْنَعَكَ الْمَطَرُ»… كان هذا بعد زمن فيه “أُغْلِقَتِ السَّمَاءُ وَلَمْ يَكُنْ مَطَر”.

(سفر ملوك الأول 18: 42- 44)

تشهد الأديرة، في غضون سنوات قليلة من تلك اللحظة، إقبالاً من الشباب طالبي الرهبنة، بعضهم تأسياً بالشابين المغامرين، وبعضهم لأسباب تنوعت بين ضغوط اللحظة، وصدماتها النفسية والاقتصادية والمجتمعية، وبعضهم تحت تأثير السير الرهبانية الطوباوية التي أعيد طرحها، وبعضهم ليحقق سعيه لحياة أفضل حسب فهمهم للإنجيل واعتبارهم الرهبنة تَرْجَمَة لدعوة ترك الكل والالتصاق بالواحد. وبعضهم بحثاً عن تحقق ما أخفق في صنعه بحياته في العالم.

ربما يعطينا تنوع الدوافع تفسيراً لما شهدته الكنيسة فيما بعد من صدامات وخلافات بين هؤلاء الرواد حين قدر لهم أن يتصدروا المشهد الكنسي كلٍ في دائرته وموقعه، لكن ما يهمنا هنا معالجات من انتهى بهم الأمر إلى مقاعد السلطة الكنسية، لملف إدارة الكنيسة. وتحديداً في إعادة هيكلة ورسم منظومة الأساقفة.

كانت البداية عند البابا (القديس) الأنبا ، في حدثين لهما صلة بأزمة الأساقفة، الحدث الأول عندما أسس توجه رسامة أساقفة عموم، يتولون مهام عامة محددة في خدمة الكرازة دون إيبارشية محددة وبدون رعية، والحدث الثاني عندما أغلق مدرسة الرهبان عام 1961، وأعاد رهبانها إلى أديرتهم، وبعدها بسنوات قليلة صارت المدرسة مقراً لإقامة الذي تمت رسامته بعد مدّة وجيزة، لتموت فكرة إعداد الرهبان لتولي مهام الأسقفية، لاهوتياً وكنسياً وعلمياً عبر الدراسات اللاهوتية والكنسية، والإنسانية من علم نفس وعلم اجتماع وفلسفة على أيدي علماء متخصصون.

كانت الأديرة تشهد إقبالاً من خريجي الجامعات طالبي الرهبنة، الأمر الذي جذب الأنظار لهم، واتجهت الكنيسة لتفضيلهم في رسامات الأساقفة، وكان من الممكن أن يكون هذا تطوراً إيجابياً يصب في صالح التعليم والرعاية، لكنه لم يكن كذلك، فقد شهدت الأديرة استدعاءً لمن يراه صاحب القرار أكثر ولاءً، ليترهب، بعد فترة اختبار وجيزة، ويبقى في الرهبنة سنوات لا تتجاوز في أفضل الحالات أصابع اليد الواحدة توطئة لرسامته اسقفاً، بغض النظر عن معارفه وخبراته اللاهوتية والكنسية، وبالضرورة لم يعش حياة التلمذة في سنواته الديرية القليلة، وتظهر المفارقة مع ثورة المعلومات وتدفقها، بين أصابع الأجيال الجديدة من الشباب عبر آليات الثورة الرقمية التقنية، وثورة الأسئلة عندهم، التي تقابل بإخفاق هذا النوع من المدبرين في مواجهتها، الذين يلجأون ـ عجزاً ـ إلى إعمال السلطة، ورفع سلاح الإبعاد والعقوبات حتى إلى الحرم والقطع.

توقفت كثيراً أمام ترتيب الأحداث عسى أن أجد مبرراً للمتاعب التي حاقت بموقع الأسقف، أدركت أن التجريف بدأ عند اللحظة التي أغلقت فيها أبواب مدرسة الرهبان بدلاً من معالجة أزماتها، وتطويرها لتصبح نواة لجامعة لاهوتية تعيد إنتاج زخم اللاهوتية، ثم تدعم التجريف بإدارة المشهد الديري والأسقفي بذهنية سياسية، كانت مشغولة بتكوين أثقال موالية في .

فإذا كنا نريد إعادة هيكلة المشهد الأسقفي نبدأ بالدير، لنعيده إلى نسق التلمذة وضبط العلاقات داخله، والتوقف في الأقل لمدة عشر سنوات عن منح قاطنيه أية رتبة كهنوتية (من القس للأسقف) حتى يسترد وعيه الرهباني ولا يزاحمه أية تطلعات خارجه.

سيدي الأسقف أدعوك لتقرأ معي ما جاء بكتب المراسيم الرسولية (القرن الرابع):

من أجل الأساقفة، هكذا سمعنا من ربنا يسوع المسيح، أنه يجب على الراعي المقررة رسامته أسقفاً على الكنائس في كل إيبارشية أن يكون بغير لائمة ولا علة، طاهراً من كل أنواع الشر الشائعة بين الناس، ليس بأقل من خمسين سنة من أجل بيته، وقد هرب من الانحرافات الشبابية وأقاويل الوثنيين.

ويجب عليه أن يكون وديعاً متواضعاً هادئاً رحيماً صانع سلام ذا سريرة جيدة طاهراً من كل ظلم وشر وكل اغتصاب متيقظاً متأنياً غير قلق وغير مخاصم، غير محب للفضة وليس غرساً جديداً لئلا يتعظم فلبه فيسقط في فخاخ .

(المراسيم الرسولية: القرن الرابع)

فيما توجه القبطية تحذيراً للأسقف

كل أسقف راض بقلة العلم، أو بجهل أو بحقد، ليس هو أسقفاً بل يحمل الاسم كاذباً، وهو ليس من قِبل الله بل من قِبَل الناس

(قوانين الرسل القبطية.. القانون 1 : 51)

وللطرح بقية.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جزء من سلسلة: أيها الأسقف.. من أنت؟[الجزء السابق] 🠼 أيها الأسقف.. من أنت؟ [١][الجزء التالي] 🠼 أيها الأسقف.. من أنت؟ [٣]
كمال زاخر
كاتب ومفكر قبطي في التيار العلماني المصري  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب: : صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨