- من أنت يا سيد؟
- ☑ أيها الأسقف.. من أنت؟ [١]
- أيها الأسقف.. من أنت؟ [٢]
- أيها الأسقف.. من أنت؟ [٣]
- أيها الأسقف.. من أنت؟ [٤]
- أيها الأسقف.. من أنت؟ [٥]
- أيها الأسقف.. من أنت؟ (٦)
- أيها الأسقف.. من أنت؟ [٧]
- أيها الأسقف.. من أنت؟ [٨]
- أيها الأسقف.. من أنت؟ [٩]
- أيها الأسقف.. من أنت؟ [۱۰]
- أيها الأسقف.. من أنت؟ [١١]
- أيها الأسقف.. من أنت؟ [١٢]
- أيها الأسقف.. من أنت؟ [١٣]
- أيها الأسقف.. من أنت؟ [١٤]
- أيها الأسقف.. من أنت [١٥]
توقفت ملياً أمام وصف القديس بطرس الرسول للسيد المسيح بأنه "راعي نفوسكم وأسقفها"، وذهبت ابحث في معنى "أسقف" في أدبيات الكنيسة، خاصة في قرونها المبكرة قبل أن تعرف طريقها إلى الانشقاق، وكيف يمكن أن يحمل إنساناً نفس اللقب والوظيفة اللتان لرب المجد؟ وعبر العديد من الكتب الوثائقية التي استغرقتني وجدت العديد من الإجابات، ومعها وقفت على أصالة الكنيسة وامتدادها؛ إيمانا وممارسات وحياة، حتى كنيسة الرسل التي رأسها المسيح، ومعها الكنائس الشقيقة بتعدد توزعها الجغرافي. وبقدر الأصالة كانت الصدمة، فالواقع المعاش يقدم لنا صورة مهترئة ومهلهلة أوغلت في الشكلانية والانفصام، ولم تكن المفارقة بنت الصدفة، بل تضافرت معطيات كثيرة ـ داخلية وخارجية ـ لتشكلها، وأخال أن فكرة الفرقة الناجية باتت تحتل مساحة كبيرة في الذهن الجمعي، وتتفق مع ما جاء بمستهل سفر أيوب:
وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذْ جَاءَ آخَرُ وَقَالَ: «بَنُوكَ وَبَنَاتُكَ كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ خَمْرًا فِي بَيْتِ أَخِيهِمِ الأَكْبَرِ، وَإِذَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ جَاءَتْ مِنْ عَبْرِ الْقَفْرِ وَصَدَمَتْ زَوَايَا الْبَيْتِ الأَرْبَعَ، فَسَقَطَ عَلَى الْغِلْمَانِ فَمَاتُوا، وَنَجَوْتُ أَنَا وَحدِي لأُخْبِرَكَ»
(سفر أيوب 1: 18- 19)
نجوت أنا وحدى (!!).
انتبهت الكنيسة مبكراً لتعليمات القديس بولس لتلميذه تيموثاوس فيما يتعلق بالتعليم، والتدقيق في اختيار من يعمل معه
“فَتَقَوَّ أَنْتَ يَا ابْنِي بِالنِّعْمَةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. وَمَا سَمِعْتَهُ مِنِّي بِشُهُودٍ كَثِيرِينَ، أَوْدِعْهُ أُنَاسًا أُمَنَاءَ، يَكُونُونَ أَكْفَاءً أَنْ يُعَلِّمُوا آخَرِينَ أَيْضًا.”
(رسالة بولس الثانية إلى تيموثاوس 2 : 1 ـ 2).
أمناء … أكْفاء للتعليم.
كانت الإسكندرية العاصمة الثقافية للإمبراطورية الرومانية، وطبقت شهرة مدرسة الإسكندرية اللاهوتية الآفاق، لذلك كانت أنظار الكنيسة المصرية تتركز عليها حين يتعلق الأمر باختيار المدبرين الأساقفة، من بين معلميها، وحين تعرضت الكنيسة ومدرسة الإسكندرية لملاحقات ومطاردات ما بعد الانشقاق، جمع معلمو المدرسة مخطوطاتهم وكتبهم ولجأوا إلى الأديرة، خاصة أديرة وادي النطرون، ولعل هذا يفسر لنا احتشاد تلك الأديرة بكنوز المخطوطات الآبائية، التي حملها علماء مدرسة الإسكندرية أو التي كتبوها حال إقامتهم بالأديرة، وبالضرورة تتلمذ عليهم ـ وعليها ـ رهبانها، فتقرر الكنيسة اختيار الأساقفة من قاطنيها، كان وعي الكنيسة يتشكل عبر هؤلاء العلماء الأمناء الأكْفاء.
لم تكن الكنيسة والأقباط بمعزل عما يحدث في الفضاء العام، فقد جرت في النهر مياه كثيرة، وتغيرات عاتية تشهد سقوط وقيام أمم وكيانات، وتتعرض الكنيسة والأقباط، وقد تحولا إلى أقلية عددية، لحصار واستهداف، من جحافل الغزاة من الشرق والبربر من الغرب، وتتعرض الأديرة للنهب من كليهما، وثقتها كتب التأريخ القبطية، ولم تخلو منها كتب وشهادات المؤرخين المعاصرين أو التالين لتلك الحقب، وكان من الطبيعي ووفق أحكام موازين القوى، أن تلجأ الكنيسة والأقباط إلى التقوقع والانكفاء على الذات ويدخلان نفق طال، طيف من مخطوطات الأديرة حفظته سراديبها، وطيف أخر وجد طريقه للمكتبات الكبرى في الغرب عن طريق نفر من المستشرقين والرحالة.
يطل علينا القرن التاسع عشر ومعه تباغتنا دورة جديدة من دورات التاريخ، فنشهد الحملة الفرنسية التي كانت تهدف إلى قطع الطريق على غريمها الأوروبي، المملكة المتحدة بريطانيا العظمى، لتحول بينه وبين مستعمراته في الشرق الأقصى، فكان لابد لها أن تمر على مصر، التي لم تبق بها إلا نحو ثلاث سنوات ونيف، لكنها كانت بمنزلة الشرارة التي أيقظت العقل المصري من سباته العميق والطويل، ولم يكن الأقباط بعيداً عن التفاعل والحراك العام، ففي أعطاف الحملة جاءت الإرساليات، خرجت الحملة العسكرية ولم تخرج معها الإرساليات، ويتحرك الغريم التقليدي بحملة موازية عاتية ليمكث طويلاً جاثماً على مقدرات مصر، وفي أعطافه تتعدد الإرساليات ومعها أدوات تواصل لم نعهدها قبلاً، بين الحملتين الفرنسية القصيرة والبريطانية الممتدة، نشهد حضور محمد علي، الذي لم يكن مجرد حاكم وافد يحمى مصالح الباب العالي، بل شخص يحمل طموحات وتطلعات صنعت منه رقماً فاعلاً ومفصلياً في إفاقة وطن، وبين ثلاثية الحملات والوالي يفيق الأقباط على واقعهم المتراجع، وتتشكل إرهاصات البعث القبطي الكنسي.
المشكلة التي واجهت الرعيل الأول ومن تلاهم، هي أن التراث الآبائي الحاكم للكنيسة، باعتبارها كنيسة تقليدية، في أغلبه مدون ومحفوظ في مخطوطات يونانية وقبطية وبعضه بالعربية، وتتعمق المشكلة مع الانقطاع شبه الكامل عن هذا التراث، والممتد لقرون، الذي انعكس على حال الأديرة والكنيسة، اتجه فريق من الرعيل الأول وتلاميذهم إلى مدونات الكنائس الأرثوذكسية الناطقة بالعربية وقد سبقتنا إلى التواصل مع التراث اليوناني والسرياني والأنطاكي وتعريبه، ونهلوا منه وكان الرائد في هذا التوجه المعلم القديس حبيب جرجس.
وبعد سنوات ليست ببعيدة اتجه فريق آخر إلى طرق أبواب التراث بلغاته الأصلية في ملحمة وجلد ومثابرة، وبتأسيس علمي أكاديمي، عبر بعث نسق التكريس، الذي ضم علمانيين ورهبان، وكان أبرز رواده الدكتور نصحي عبد الشهيد الذي نجح في مأسسة هذا التوجه.
ظني ـ وليس كل الظن إثماً ـ أن المناخ السائد، في الفضاء العام، والممتد لقرون الذي شكل الثقافة العامة، كان حاضراً في الصدام بين الفريقين، حتى إن بعضاً مما استقر في الذهنية الشعبية وربما في ذهنية قطاع نخبوي فاعل بات متأثراً بتلك الثقافة، وراح يقرأ قضايا اللاهوت بخلفية أممية، لذلك لم يكن غريباً أن يستنكر التأويل الذي يقدمه الفريق الآبائي الذي اقتحم التراث في لغاته الأصلية.
السؤال وما علاقة كل هذا بطرحنا الذي يتناول ماهية الأسقف؟ ربما ندرك العلاقة عندما نقف على اتفاق واختلاف قواعد اختيار الأسقف في القرن العشرين بجملته عن ما بيناه في سردنا هذا، كان الاتفاق في الاختيار من بين الرهبان حصراً، أما الاختلاف ففي التوسع المتواتر في رسامات الأساقفة وكان المبرر اتساع رقعة الخدمة، ثم تطور الأمر إلى قصر الاختيارات على رهبان دير بعينه، ثم تقسيم الإيبارشيات الكبيرة جغرافياً إلى إيبارشيات صغيرة وكان المبرر توفير خدمة أكثر فاعلية وتأثيراً، ثم ظهر توجه رسامة أسقف عام، وهو أسقف بلا رعية، كان في البداية يكلف بمهام خدمية عامة محددة، التعليم ـ البحث العلمي ـ الخِدْمَات الاجتماعية ـ الشباب، ثم أطلق العنان لرسامات أساقفة عموم دون مهام محددة لحين تجليسه على إيبارشية جديدة أو رحيل أسقفها.
التوسع في الرسامات سواء أساقفة الإيبارشات الصغيرة أو الأساقفة العموم ثم توليتهم مهام الإشراف على قطاعات صغيرة من الكنائس كان له آثاره في إرباك الهرم الهيراركي الإكليروسي، إذ صار الإيغومانس موقع شرفى بلا صلاحيات بعد أن حل محله الأسقف الإيبارشي أو العام، وكذلك الأمر مع رتبة المَطْرَان، وصارتا أشبه بمكافأة شرفية. وانعكس هذا سلباً على جودة الخدمة وعمقها.
تفجرت الأزمة بعد رحيل قداسة البابا شنودة بشيبة صالحة، لنكتشف أن طيف من الأساقفة أخذوا عنه السلطة ولم يقتربوا من قدراته في إدارة المشهد، فصاروا عبئاً على الكنيسة بعد أن عرفت خلافاتهم طريقها إلى فضاء التواصل الاجتماعي عبر وكلاء اللجان الإلكترونية، وعبر بيانات وتصريحات بعضهم، التي تفتقر للقواعد المنطقية ولا تخلو من المخالفات اللاهوتية والتعليمية.
ربما كان تراجع الأديرة، والاختيار دون إعداد كاف، وقِصر مدة رهبنتهم المفتقرة للتلمذة بطبيعة الحال، وكونهم من أهل الثقة الذين يجيدون تقديم أنفسهم ـ وهم في مرحلة الرهبنة ـ لصاحب القرار على أنهم من الموالاة المخلصة، ربما كانت هذه من أهم أسباب أزمة هؤلاء. وربما نكتشف عمق الأزمة في التعامل من منطلق السلطة المطلقة والمغالاة في المظهر الفخم وتبديد أموال الإيبارشية في مكوكية السفر للخارج بمبررات غير مستساغة، واللجوء للعقوبات الكنسية لكل من يبدى اعتراضاً على منهجهم. حتى تخالهم آلهة هبطوا علينا من السماء، بصلاحيات مطلقة. وإمكانات وقدرات محدودة.
وقبل أن نعرض لرتبة الأسقف كما عرفتها الكنيسة الجامعة أجدني مديناً لإثنين من فرسان التنوير الكنسي بعيداً عن الصراعات المفتعلة التي صارت خبز يومنا واقتحمتنا كنتيجة متوقعة لموجات التجريف، التي طالت حياتنا الكنسية وانعكست على حياتنا الاجتماعية، وبدأت إرهاصاتها مع مطلع النصف الثاني من القرن العشرين. الأول الدكتور وليم سليمان قلادة، الذي عكف على تحقيق ودراسة وتحليل كتاب “الدسقولية” الذي يحسب أقدم وثيقة كنسية من تراث الكنيسة الشرقية، واللافت أن تهتم الكنيسة الإنجيلية عبر دار الثقافة بطبع ونشر هذا العمل الأكاديمي الموسوعي.
ويسجل الدكتور وليم قلادة في مقدمته في طبعته الثانية (1989) أن:
الكتاب حظي منذ الأسابيع الأولى (عقب صدور طبعته الأولى) بتقدير خاص من قداسة البابا شنودة الثالث الذي قدم عنه في مجلة الكرازة ـ 12 يوليو 1979 ـ عرضاً شاملاً يعتز به الكاتب ويسعد.
قال قداسته إن الكتاب “ثمرة بحث مدى عشرين سنة (من 1958 ـ 1978) عكف فيه المؤلف على تعاليم الرسل، وما تشملها من شرح للرعاية وطبيعة الكنيسة، وشئون عبادتها، وما يتعلق بهذا كله من مفاهيم مسيحية أخذت أصالتها منذ القرون الأولى، وأشار قداسته إلى منهج عمل الكاتب فقال: “اعتمد المؤلف على مخطوطات قبطية وترجمات عربية تعتبر من أقدم الأصول التي تحت أيدينا. واهتم المؤلف بأن يحقق كل عبارة في الدسقولية، ويعلق عليها في هوامش كثيرة تشمل الشواهد الكتابية، ومعاني بعض الألفاظ، وشروحاً طقسية ولاهوتية ولغوية” وختم قداسة البابا عرضه الشامل بقوله “كتاب الدسقولية كتابان: عرض الدسقولية، وبحث لاهوتي كتابي”.
(وليم سليمان قلادة)
جدير بالذكر أن كتاب الدسقولية هو الجزء الأكبر من كتاب “المراسيم الرسولية” الذي يضم ثمانية كتب، وصدر في أواخر القرن الرابع.
أما الشخص الثاني الذي أدين له بالشكر فهو الراهب القس أثناسيوس المقاري الذي قدم للمكتبة العربية القبطية مع مطلع القرن الواحد والعشرين سلاسل متعددة، تضم كل واحدة منها العديد من الكتب الكنسية الوثائقية؛ تحت عناوين:
ـ مصادر طقوس الكنيسة.
ـ مقدمات في طقوس الكنيسة.
ـ طقوس أسرار وصلوات الكنيسة،
ـ طقوس أصوام وأعياد الكنيسة.
وهى أعمال موسوعية تتطلب مجموعات عمل متفرغة ومتخصصة، أنجزها هذا الراهب بإصرار ودأب. ونعتمد في التعرض لماهية الأسقف على كتابين ضمن سلسلة طقوس أسرار وصلوات الكنيسة، هما الكهنوت المقدس والرتب الكنسية (جزأين)، وكتاب معجم المصطلحات الكنسية (ثلاثة أجزاء).
ويقول المؤلف في تقديمه للكتاب الأول (المسيح هو ابن المحبة وبسبب حبه للإنسان، فقد أعطاه نصيباً من قيامته، ومن معرفة الآب ومشاركة مجده، كما أعطاه مشاركة في كهنوته لكى يكمل الإنسان عمل وساطة المسيح، التي أستودعها المسيح في كنيسته، فالكهنوت المسيحي هو كهنوت المسيح نفسه، وهو الوسيط الوحيد بين الله والناس كقول بولس الرسول، ومن ثم فقد صار كاهن كنيسة العهد الجديد، كوكيل لسرائر الله، يأخذ خدمة هذه الوساطة من المسيح نفسه، بنفخة الروح القدس فيه.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨