- ☑ من أنت يا سيد؟
- أيها الأسقف.. من أنت؟ [١]
- أيها الأسقف.. من أنت؟ [٢]
- أيها الأسقف.. من أنت؟ [٣]
- أيها الأسقف.. من أنت؟ [٤]
- أيها الأسقف.. من أنت؟ [٥]
- أيها الأسقف.. من أنت؟ (٦)
- أيها الأسقف.. من أنت؟ [٧]
- أيها الأسقف.. من أنت؟ [٨]
- أيها الأسقف.. من أنت؟ [٩]
- أيها الأسقف.. من أنت؟ [۱۰]
- أيها الأسقف.. من أنت؟ [١١]
- أيها الأسقف.. من أنت؟ [١٢]
- أيها الأسقف.. من أنت؟ [١٣]
- أيها الأسقف.. من أنت؟ [١٤]
- أيها الأسقف.. من أنت [١٥]
كان اللقاء الأول عاصفاً، كان الطرف الأقوى هو المبادر، وكان الطرف الثاني يَجدُ في سعيه لتعقب أتباع الطرف الأول، وقد وقر في عقله أنه يقدم خدمة لله، حتى كاد أن يتفرغ لمهمته الوجودية التي نذر نفسه لإتمامها كما تقول الشريعة. كان اللقاء في وضح النهار لكنه كان محتشداً بالإبهار بالقدر الذي يربك منطق وفكر وترتيب الطرف الثاني، لكن يبدو أنه كان يملك ثباتاً انفعاليا ساعده على أن يبقى يقظاً قادراً على إدارة حوار يسبر فيه أغوار هذه المباغتة، كان سؤاله "من أنت يا سيد؟" بعد أن سمع نداء "شاول ... شاول لماذا تضطهدني؟!"
يحكى لنا شاول أطياف من هذا اللقاء وتصاعده، في أكثر من مناسبة، حتى ينتهى به الأمر إلى مصالحة وصداقة بين الطرفين، وكيف سعى ليتتلمذ شاول بدأب وإصرار وبشكل مباشر لثلاث سنوات وربما أكثر في صحراء العربية على الرب يسوع صاحب مبادرة اللقاء، تنتهى بأن يتسلم منه إنجيله الذي حمله وجال به بين الأمم، داعياً ومبشراً، وقد طوع كل ملكاته ومواهبه لهذه المهمة الحياتية، وفى مشوار تبدلت فيه أولوياته، ودوره. لم يغير اسمه ولم يتنكر لصلاحياته المدنية والسياسية المكتسبة، فكان مثله مثل كثيرين من أبناء جيله، من مزدوجي الجنسية، يحمل اسماً يهودياً بحكم الانتماء العائلي والعرقى “شاول” واسماً يونانيا “بولس” بحكم جنسيته الرومانية التي اكتسبها ميراثاً عن أبيه الذي كان يعمل في خدمة الإمبراطورية الرومانية.
لم يكن سؤاله سؤالاً عابراً، ولم يتوقف طرح السؤال عنده، فقد طرح مجدداً بعد أن هدأت نيران الاستهداف المستعرة، التي حاصرت وطاردت جماعات المسيحيين الأوائل، لقرون ثلاثة، بدءً من الإمبراطور نيرون الذي دشن عصر الاضطهاد عام 64 م، حتى بلغ ذروته في عصر الإمبراطور دقليديانوس ما بين عامي 303 و313، في بواكير القرن الرابع الميلادي ثم يأتي الإمبراطور قسطنطين ليضع نقطة في نهاية تلك المرحلة العصيبة، ويعد قسطنطين أحد ابرز الثعالب السياسية، إذ يعيد قراءة المشهد في امبراطورية مترامية الأطراف، ويعيد فحص التقارير الأمنية والتقارير التي تعرض الموقف السياسي فيها، ويشد انتباهه، جسارة جماعات المسيحيين في مواجهة موجات الإبادة، التي يتعرضون لها، وما يبدونه من قبول الموت بابتهاج، وفرح.
لم تكن قضية الإيمان تشغله، لكنه قرأ المشهد بعقلية سياسية استراتيجية، هم رعايا امبراطوريته، وتحكمهم منظومة قيم شكلت جسارتهم وأمانتهم، واستقامتهم، وولائهم للإمبراطورية رغم جسامة معاناتهم، بحسب التقارير المرفوعة له، فلماذا لا يحولهم إلى طاقة تدعم أهدافه، وتؤكد إحكام قبضته واستقرار حكمه، يتفتق ذهنه السياسي عن خطة تضمن ترجمة هدفه هذا، إلى واقع على الأرض، كانت البداية عام 313م. حين اصدر، بصفته إمبراطور الإمبراطورية الرومانية الغربية، بالاتفاق مع ليسينيوس، إمبراطور الإمبراطورية الرومانية الشرقية، منشور ميلان الذي عرف بمنشور التسامح، والذي يقضى بـ “منح المسيحيين وغيرهم الحرية لاتباع الدين والنهج المناسب والأفضل لكل فرد منهم”.
استراحت الكنيسة فقفز السؤال مجدداً: من أنت يا سيد؟
خرجت الكنائس من تحت الأرض، وخرج المسيحيون من المغائر والشقوق، وعادوا إلى حياتهم الطبيعية، وانتقلوا من حالة الاستنفار والتوجس، إلى حالة تتلامس مع الاسترخاء، وقفزوا على المناصب الهامة بالقرب من الإدارة الحاكمة وقصر الإمبراطور، الذى انتبه إلى كيفية تخليد اسمه فأنشأ مدينة القسطنطينية، وتضمنت كاتدرائية كبرى تليق به وبها، وفرضها كعاصمة جديدة، وفرضها كواحدة من الكراسي الكبرى لتآخى كراسي روما ـ العاصمة السياسية التاريخية القديمة ـ والإسكندرية ـ العاصمة الثقافية الشامخة ـ وأورشليم بما تحمله من عبق الكنيسة الأولى، وأنطاكية العريقة.
دخول الدولة وعلى رأسها إمبراطور طموح في ترتيب الشأن الكنسي المسكوني برؤيته السياسية، بغية توظيفها كقوة ناعمة لدعمه، وضمان ولاء الشعب له من خلالها، أضفى على أمراء الكنيسة صبغة الحكام، وأفضى إلى اقترابهم من البلاط الإمبراطوري، وانتقلت الكنيسة في دائرة الإدارة إلى التنافس بين الكراسي الخمسة، في من هو الكرسي الأولى بالقيادة، كان المستقر أن روما بثقلها التاريخي والسياسي في المقدمة تليها الإسكندرية، فلما ظهرت القسطنطينية الواعدة والمتوعدة، أزاحت الإسكندرية إلى المرتبة الثالثة، وحلت محلها تالية لروما.
مع حالة الاسترخاء، فرض الفراغ آلياته على الكنيسة، فبدأت تظهر تأويلات جديدة تتناول أسس الإيمان، ولما كان شخص المسيح هو محور وقاعدة الإيمان، لذلك صار هو محور التأويلات الجديدة، وكانت الكراسي تدعو لمجامع محلية تتناول ما يطرح، وتفحصه وتقومه وتضبطه على ما لديها من قواعد تسلمتها عبر أجيالها المتتابعة من كنيسة الرسل، فيما عُرف بالتقليد، وينتهى الأمر بإقرار أصحاب التأويلات بما انتهت إليه تلك المجامع.
حتى جاء قس سكندري يملك من الحصافة والقدرة على صياغة أفكارة ليشيع رؤيته التي ترفض أن يكون المسيح مساوياً للآب في الجوهر، وعندما واجهته كنيسة الإسكندرية بما تؤمن به، خرج بطرحه إلى الكنائس الشقيقة، كان محور الأخذ والرد تنويعة على السؤال الأثير “من أنت يا سيد؟”.
ارتجت المدن وتعالت وتيرة السجس في شوارعها، وأدرك قسطنطين أن ثمة خطر يتهدد امبراطوريته، فبادر إلى دعوة أساقفة العالم إلى اجتماع في واحدة من مدن عاصمته، تحت رئاسته، لحسم الجدالات الدائرة بامتداد الإمبراطورية، فكان مجمع نيقية (325م.).
كان اللافت لي وأنا أتابع أعمال المؤتمر الإمبراطوري (المجمع) تعاطى الإمبراطور مع الحدث، وهو رغم موقعه السياسي المتقدم بل الأول، لم يكن طرفاً في الخلاف، وهو حتى تلك اللحظة لم يكن قد نال سر المعمودية، ولم يكن قد أعلن صراحة على قبوله الإيمان المسيحي، لكنه كان يترأس جلسات المجمع، هكذا، وعندما نقرأ عن القواعد المنظمة لكيفية انعقاد مجمع مسكوني (يضم كافة الكنائس) التى استقرت في الكنائس التقليدية، نجد في مقدمتها أن يكون الداعي لها الحاكم (الإمبراطور)، حتى تكتسب شرعيتها والاعتراف بها !!.
يقول المؤرخون أن قسطنطين في نهاية مؤتمره المسكوني في وداعه للأساقفة المشاركين، أهدى كل اسقف كرسي مستنسخ من كرسيه الإمبراطوري، وحُلة إمبراطورية، وصولجان كصولجانه، وهكذا صار الأسقف خاصة في كنائس الشرق صورة مصغرة من الإمبراطور، بل أن الكنيسة شرقاً وغرباً رتبت هيكلها الإداري على غرار الهيكل الإمبراطوري، خاصة وأن مجمع نيقية قدم اسقف الإسكندرية على أقرانه من أساقفة مصر ليصير هو رأس الكنيسة، وتُناظر الإيبارشية المقاطعة، والأسقف هو المناظر الكنسي لحاكم المقاطعة، وتتشابه ملابس الأسقف مع ملابس الإمبراطور ويضع تاجاً على رأسه كنظيره الإمبراطوري.
ويتكرر طرح السؤال وتتكرر المؤتمرات المسكونية لتنتهى بانقسام الكنيسة على نفسها، وتحجز السياسة موقعاً متقدماً في مصدامات الكراسي داخل تلك المؤتمرات (المجامع)، وينتقل السؤال من جيل إلى جيل، وتتصارع الإجابات.
تنهار الإمبراطورية الرومانية وتجرى في النهر مياه كثيرة تتلاطم فيها أمواج الصراعات، تندثر كيانات سياسية وتبزغ أخرى.
تراجع موقع الكنيسة فقفز السؤال مجدداً : من أنت يا سيد؟
تغادر كنائس الشرق مكانها في موقع المركز لتنزوى بعيداً عند الأطراف، وتتأثر بثقافة مختلفة لا تسترح لأطروحات الكنيسة خاصة في دائرة “الخريستولوجي” وتناصبها العداء، مع الأمة الجديدة والتي بسطت نفوذها على الشرقين الأدنى والمتوسط، يتسلل طيف من ثقافتها التي تحاصر الكنيسة، ومعها يعود السؤال الأثير ليطرح من جديد “من أنت يا سيد؟”.
وتتصارع الإجابات داخل الكنيسة الشرقية، ربما القبطية تحديداً، الممزقة بين تراث عريق محجوز في رقوق مدونة بلغات مهجورة، وبين ثقافات غازية، فرضت لغتها التي لا تحتمل مصطلحات اللاهوت، وهو تمزق شكّلته انقطاعات حادة، تغير فيه لسانها مرتين، مرة في أعقاب انفضاض مجمع خلقيدونية (451م.) حين قاطعنا بملء الإرادة الإكليروسية اللغة اليونانية لتحل القبطية محلها، في انحياز قومى لا تخطئه عين، والثانية حين أُجبرنا على هجران القبطية كلغة حياة، لأسباب ينكرها من وقف وراء إجبارنا على الهجرة القسرية إلى العربية، في المساحة ما بين القرنين العاشر والثاني عشر الميلاديين، ومع عوامل تاريخية أخرى ندخل في نفق طال لقرون، حتى انتبهنا لحاجتنا إلى إعادة التواصل تحت ضغط الإرساليات التي جاءت في أعطاف الحملة الفرنسية مرة وفى مصاحبة الاحتلال البريطاني مرة، فضلاً عن الحراك الثقافي والتوعوي الذي دشنه الوالي محمد على، ثم الخديوي إسماعيل.
كانت بداية السعي المؤثر مع إسناد عمادة المدرسة الإكليريكية للأستاذ (القديس) حبيب جرجس، الذي أسس منظومة “مدارس الأحد”؛ والتي جاءت استنساخاً لفكرة ونظام تجربة مدارس الأحد الغربية بعد تطعيمها ببعض المظاهر القبطية الأرثوذكسية في الممارسة، وتأثر مؤسسها وجناح شبرا بمصادر تعليمية خارج السياق القبطي الأرثوذكسي، وذكر ذلك بأمانة في كتبه التعليمية، بينما تبنى جناح آخر التوجه الاجتماعي في مقابل توجه انعزالي لجناح ثالث.
وشهدت الكنيسة صراعاً غير معلن بين كهنة تلك الفترة وتيارات مدارس الأحد، وانقسم معهم الشباب إلى فريق شمامسة في مواجهة فريق مدارس الأحد.
وانتهت المواجهة بتسيّد مدارس الأحد بعد صعودها إلى الكرسي البابوي لتبدأ مرحلة جديدة تتغير معها خريطة التوازنات، بتوجه الكنيسة إلى رهبنة الفضاء الكنسي، وعلى الرغم من أن الرهبنة هي بالأساس حركة علمانية إلا انه تم صبغها بالصبغة الكهنوتية، وتم إخضاعها للهيراركية الكنسية، وتم تقنين رسامة اسقف لكل دير، فتفقد تمايزات تجمعاتها والقدر المتاح لها من حرية الحركة، وتنوع مدارسها.
وفى تطور لاحق يتم التمييز بين الكاهن الراهب والكاهن المتزوج، ويمتد محاصرة الأخير بالتوسع في رسامة ما عرف بالأسقف العام (اسقف بلا رعية !) لتتقلص معه مهام ودور الإيغومانوس (القمص)، بعد أن تراجع دور الشماس لينحصر في حفظ وترديد الألحان الكنسية.
الأزمة هنا ليست في خريطة التوازنات المرتبكة واختلال الهيراركية الكنسية بالاختفاء الفعلي لدور كل من الشماس والقمص، وإنما في الصلاحيات المفتوحة للأسقف وارتهان بقاءه برضا البابا البطريرك وجماعات الضغط والمصالح.
والأخطر هو خضوع التعليم فيما بعد صعود جناح من أجنحة مدارس الأحد إلى قيادة الكنيسة لما يؤمن به هذا الجناح، والذي نجح في تكريس التماهي بين قيادة الكنيسة وبين الكنيسة الكيان، واعتبار أن ما تقول به القيادة بشكل شخصي هو رأى الكنيسة. وان من يختلف مع طرح ورأى هذا الجناح إنما يختلف مع إيمان الكنيسة (!!!) بل ويحسب مهرطقاً. ويخضع للملاحقة من صقور المجمع.
صارت الإجابة بحسب الآباء على السؤال الأثير محفوفة بالمخاطر، وأقصر طريق لوصم صاحبها بالهرطقة. وهو الاتهام الذي طال التجمعات والمراكز الثقافية التي حملت مسئولية إعادة وصل ما انقطع مع فكر الآباء وخاصة آباء الكنيسة الجامعة قبل الانشقاق، وإعادة رسم خريطة الكريستولوجي، والتأكيد على مكتسبات الإنسان التي صارت له جراء التجسد والفداء، التي أوجزها القديس أثناسيوس الرسولي في قوله عن الرب يسوع المسيح “أخذ الذي لنا وأعطانا الذى له” واعتمدتها ليتورجية الكنيسة في تسبحتها.
ويظل السؤال مطروحاً: من أنت يا سيد؟
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨