“الطريقة الأكثر أمانًا لعدم التعاسة هي ألا تتوقع أن تكون سعيدًا جدًا”.

(أرثر )

لم أكن أعرف “للتعاسة” معنى حين كانت جدتي تمسك يداي وتغلق عليها بأحكام حتى تنسجم أصابعي الصغيرة مع حرارة كفها الذي يعلن خوفها من أن تضيعني وسط زحام شارع “كلوت بك” الذي نقصده قادمين من حي الظاهر كعادتنا كل يوم جمعة. لم تفلت يدي ولا مرة واحدة، سواء في رحلتنا الصباحية ما بين كنائس “كلوت بك” أو رحلتنا المسائية إلى كاتدرائية العباسية.

في رحلتنا المسائية من الظاهر عبر شارع رمسيس وصولاً للعباسية كانت أضواء الجاليريهات المختلفة تجذبني إليها فأقف طويلاً أتأمل اللوحات المعروضة بانبهار معلنة إني يوماً ما سوف أرسم مثل تلك اللوحات الرائعة. كانت جدتي تتركني أتأمل اللوحات حتى انتهي من معاينتهم جميعاً دون أن تتعجلني أبدا.

نصل إلى الكاتدرائية التي كانت شبه خالية في تلك الأيام، تحديدا بداية التسعينيات ونصعد إلى أعلى ونجلس خارج الكنيسة في تلك البقعة المميزة التي يداعب فيها الهواء فستاني القصير ويتراقص به رغماً عن أرادتي وأنا أحاول جاهدة الإمساك به وجدتي تضحك وهي تخرج ساندوتش من حقيبتها.

تجلس على السور وأنا أكل وألهو من حولها حتى يغلبني النعاس فأجلس إلى جوارها منهكة وأضع رأسي على أرجلها فترتب خصلات شعري الطويل بيدها ثم تدلك ظهري برفق حتى أجد نفسي نائمة على أرجلها داخل تاكسي يحملنا إلى البيت حيث ينتظرنا جدي بالبلكون، لم أرغب في ذلك العمر أي شيء من العالم ألّا تفلت جدتي يدي.

“عندما نكون أطفالًا، نادرًا ما نفكر في المستقبل. هذه البراءة تتركنا أحرارًا في الاستمتاع بأنفسنا كما يفعل عدد قليل من البالغين. اليوم الذي نشعر فيه بالقلق بشأن المستقبل هو اليوم الذي نترك فيه طفولتنا وراءنا”.

(باتريك روثفوس)

لم أكن أعرف يومها معنى “للتعاسة” بالتأكيد ولكن سنة بعد سنة تسرب ذلك الشعور شيئا فشيئا ولكن كانت هناك دائما جدتي تمحو بابتسامتها الحانية ما تقدر عليه من ذلك الشعور حتى أكون أنا اليوم ممتنة لها لأنها “كانت موجودة” ولم تفلت يدي أبدا حتى وأنا أكتشف معنى “التعاسة” رغماً عني، كانت هي موجودة تحاول أن تقف ما بيني وبينها حائل بقدر ما استطاعت.

أما اليوم أشعر بأن أطفال هذا الجيل يتعرفون إلى “التعاسة” أبكر مما يجب وأعنف مما كان، ولا شك أن تمشية ليلية بشارع رمسيس الآن سوف تزيدهم تعاسة وغضب لن يخفف حدته رؤية اللوحات المبهجة وراء فتارين جاليريهات العباسية، أشك أن طفل اليوم من الممكن أن تلتقط عينه تلك الأضواء الخافتة أبدا، فقد أعتاد أضواء أشد وأقوى تجذب الكثير من الذباب قبل أن تجذبه.

في طفولتي لم أتوقع التعاسة ولا حتى سعادة أكبر، فسعادتي كانت ترتبط بمشاعر بسيطة حانية تتمثل في حضن جدتي أو قبلتها على جبيني حتى سعادتي الآتية من مكافئات لطيفة كانت تتمثل ببساطة أن ترفع جدتي سماعة الهاتف وتدير قرصه وتهاتف “البرادعي” (مش بتاع المسلسل.. بس برده وأنا صغيرة كنت بخاف يطلع هو) وتعطيني السماعة حتى أطلب ما لذ وطاب من شيبسي وبيبسي وبيمبو واللبان السحري، أو حين كانت تشتري لي “أيس كريم” من عند الجوكر بشارع خالد بن الوليد بالإسكندرية وكانت سعادتي لا توصف فهو أول محل أيس كريم أراه يغرق الأيس كريم بصوص الشيكولاتة ويرش بعض الفستق أعلاه.

يا الله…  لا زالت تبهجني هذه الصورة حتى الآن، حتى سلاحف “بير مسعود” أشركتها سعادتي وأنا أراقبها وجدتي تضمني إليها بشده خوفاً علي. ويا سلام، حين كنت أخرج مع عمتي وأصدقائها وتأخذني إلى “ومبي” أو يأخذني جدي معه إلى نادي الشباب المسيحيين بالظاهر حتى يقابل صديقه الذي يحضر أيضا حفيدته معه لنلعب سوياً. لذلك لم يكن عندي توقعات بسعادة أكبر قد أنالها في المستقبل.

بالتأكيد اليوم كل مصادر البهجة تلك التي كانت تُعتبر من المميزات التي كنت أحصل عليها بفضل جدتي، هي الآن أساسيات أي طفل عادي، أعط ذلك المقال إلى طفلك واجعله يقرأ مغامراتي التب أشعرتك أنت بالنوستالجيا وأنتظر رد فعله. انتظرت؟؟

بالتأكيد لن يشعر كما شعرت لأن كل ذلك -بالنسبة له- ليست رَفَاهيَة ولا متعة إنما أساسيات الحياة في هذا العصر، هذا الجيل يملك توقعات بخصوص السعادة تجعله يعيش وكأنه مشارك في سباق مستمر من أجل تحقيق أكبر قدر من السعادة في أقل وقت ممكن، لذلك للأسف يتعرف أطفال هذا الجيل إلى “التعاسة” مبكراً، لكنها تعاسة مختلفة تماماً عن تلك التعاسة التي عاصرناها، فنحن اختبرنا التعاسة حين غابت السعادة لبعض الوقت أو كله، أما تعاسة اليوم فهي تمشي إلى جوار السعادة جنباً إلى جنب لان تعاسة اليوم هي نتيجة عدم تحقيق سعادة أكبر وليست نتيجة غيابها.

الطفل اليوم يملك هاتف لم نملكه ولكنه تعيس لأنه يريد الأحدث، يريد أن يذهب في رِحْلات خارجية، فالداخلية لم تعد ترضي شغفه، والمراهق يريد سيارة ما أن يتم الثامنة عشر ثم يريد سيارة أحدث عندما يتم التاسعة عشر، يريد أن يجوب العالم وعليك أن تحقق ذلك وإلا أتعسته. عيون الأطفال اليوم ترى الكثير والنفس تريد أكثر وإذا أخفق في تحقيق ما هو أكثر؛ أصابته التعاسة لأن ما يملكه يحقق له السعادة فقط ولكنه يريد سعادة أكبر، مما شكّل لدينا أجيال كاملة ناقمة بشكل مستمر، أجيال غاضبة تريد المزيد دائما وتنسى في سبيل الحصول عليه كل ما هو أخلاقي ومقبول وتلقي باللوم دائما على الحظ. هنا يقع الأهل في صراع ما بين تلبية احتياجاتهم التي توافق العصر أم تقويهم بما يناسب العقل.

“الأطفال لن يكونوا جيدون أبدًا في الاستماع إلى كبار السن، لكنهم لم يفشلوا أبدًا في تقليدهم”.

(جيمس بالدوين)

لا يمكن أن تطلب من طفلك أبدا أن يكون أكثر منطقياً أو متواضعا أو راضيا مادام لم يراك تتصرف كشخص منطقي ومتواضع وراض. فأطفالك هم مرآتك. أخذت الكثير من الوقت حتى علمت أن الحياة حين كنت طفلة كان يوجد بها الكثير من المتع والسعادة أكثر مما حصلت عليه ولكن عيني لم تراهم وكانت معلقة لحسن حظي بأشخاص يقدرون السعادة والحب والتواضع فعلمت أن نظرتي المنطقية للحياة التي يفتقدها الكثيرون اليوم أخذتها من عيون جدتي.

أما أطفال اليوم يرون الكثير، فهم محاطون طوال الوقت بتوقعات أكبر منهم ومنك في أغلب الأحيان، ذلك الساحر الصغير “الهاتف” جعلهم يملكون العالم بين أيديهم و لكن كقبض الريح. ملكهم أوهام الثراء السريع و الإمكانات غير المحدودة للحياة التي (يجب) أن يحيوها وما أن يعترض المنطق طريقهم حتى يصابوا بالإحباط والتعاسة.

اليوم الأطفال والمراهقون يشعرون بالملل سريعاً من كل شيء، مع أنّهم يملكون مئات الأضعاف من المُلهيات أكثر مما حظيناً به نحن، حتى في المكافئات أيضا.

أتذكر يوم أن أخدتني أسرتي لعمل عملية اللوز بعد أن أقنعوني إننا هناك حتى يتخلص أبي من جبس ذراعه ولكن حين أتت ساعة الصفر والدكتور يأخذني من جدتي هلعت وتشبثت بها وهى أيضا أمسكت بي ورفضت أن يأخذني الدكتور منها بالرغم من محاولة والداي وكل الموجودين أن تتركني ولكنها رفضت أن أدخل إلى العمليات وأنا باكية بل بكت معي وكان الدكتور يسحبني منها بأمر والداي وهي تحاول منعه ومنحها بعض الوقت معي حتى تهدئني وحينها أخبرتني أن الدكتور سوف يكشف عليَّ، وإن امتثلت لأوامره سوف تأتي لي بالكثير من الجيلي والأيس الكريم، لا أنسى أبدا بعد العملية في نفس الليلة وجلوسي فوق ترابيزة السفرة وجدتي جالسة تحتضني من الخلف وأنا أحتضن علبة (كيمو) الكبيرة وأشاهد التلفاز.

أخبرتني صديقة من قريب أنها وعدت ابنها بشراء بلاي ستيشن (فايف  ولا سكس وسيفين… لا أعلم) إذا طاوعها وقبل أن يُجرى له عملية اللوز.

فعزيزي القارئ… أرجوك لا تشارك أطفالك الحياة دون أن تكون قادرا على إبعاد شبح التعاسة عنهم وأن تكون قادرا على أن تعلمهم أن قيمتهم الحقيقية في طريقة تقييمهم لأهمية الأشياء في حياتهم وليس في قدرتك على امتلاكها مع منحهم الكثيرة من السعادة (البكر) المتمثلة في الحب والاهتمام واللُطف. أرجوك.. كن لطيفا مع طفلك حتى تكون أنت أهم أسباب سعادته.

(في ذكرى صاحبة السعادة (جدتي) في ذكراها الرابعة… السلام لروحك)

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

فيبي أنور
[ + مقالات ]