يقوم الإيمان المسيحي على أساس نصوص تعد كتابًا مقدسًا. لكن كيف أصبحت هذه النصوص مقدسة (قانونية)؟

بعض الأديان ليس لديها ما نسميه نحن كتابًا مقدسًا كما في الإسلام أو اليهودية أو المسيحية. فبعض الديانات لديها الكثير من الكتابات الدينية، ولكن ليس لديهم مجموعة واحدة محددة من الكتابات تم عزلها عن جميع الكتابات الأخرى بالتقنين.

تشير كلمة Canon (كانون) وهي كلمة يونانية الأصل إلى القياس المؤكد (مثل المسطرة)، ويمكن أن تشير أيضًا إلى قائمة من الكتب، إما أن يكون كتاب ما مدرجًا في القائمة وإما أن يعد غير قانوني، حتى لو كانت هناك كتابات أخرى نعتبرها خاصة أو مقدسة بمعنى ما، فإن الكتابات الموجودة في هذه القائمة لها شرعية خاصة.

قبل أن تبتكر الكنائس المسيحية قوائم للكتب المقدسة، كان الكتاب المقدس الأول للمسيحيين هو الكتاب المقدس اليهودي (العهد القديم) والذي قبله المسيحيون على أنه مملوكًا لهم، فعندما يقول : كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ (رسالة بولس الثانية إلى تيموثاوس 3: 16)، هو لا يتحدث عن العهد الجديد، إنه يشير إلى الكتاب المقدس اليهودي، الذي كان يعرفه في ترجمته اليونانية.

لم يدرك الأشخاص الذين كتبوا الوثائق التي شكلت في النهاية العهد الجديد إنهم كانوا يكتبون العهد الجديد، فهم كانوا يكتبون عظة، أو خطابًا، أو سردًا لحياة يسوع، لذلك عندما يتحدثون عن “الكتاب المقدس”، فإنهم، على الأقل في العصور الأولى للمسيحية، يشيرون إلى العهد القديم فقط.

التقاليد والنصوص

أقدم نصوص المسيحية المكتوبة هي رسائل بولس، قد تكون هذه مفاجأة لبعض الناس لأن الأناجيل تأتي أولًا في العهد الجديد، وتتحدث عن حياة يسوع، لذا يفترض معظم الناس أنها تحتوي على أقدم ما كتب، لكن الأناجيل كُتبت كلها بعد رسائل بولس بعشرين، أو ثلاثين، أو أربعين سنة. يعتقد معظم العلماء أن أقدم رسائل بولس هي رسالة تسالونيكي الأولى، التي يرجع تاريخها إلى حوالي عام 50م. وبعد فترة وجيزة، وربما خلال حياة بولس، بدأت كنائس مختلفة، ربما تلك التي أسسها بولس نفسه، في إرسال نسخ من رسائل بولس.

علينا أن نذكر أنفسنا بعدم وجود مطابع. فعندما تتلقى كنيسة واحدة نسخة من إحدى رسائل بولس، كان لديها كتبة، وأحيانًا عبيد، (لأن العبيد غالبًا ما تم تدريبهم ككتبة)، يصنعون نسخة من الرسالة، قد تحتفظ الكنيسة بالنسخة الأصلية التي تلقتها وترسل النسخة التي صنعتها إلى شخص آخر، تم نسخ الرسائل والكتب وترسلها بين مختلف الجماعات والأشخاص. لذلك، تم تداول رسائل بولس، وكتب تلاميذه رسائل جديدة باسمه مثل أفسس وكولوسي وتم نسخها جميعًا وإعادة نسخها وتوزيعها في النهاية.

أصبحت رسائل بولس مشهورة لدرجة تسميتها هي نفسها بـ”الكتاب المقدس”. لذا، المرة الوحيدة التي استخدمت كلمة “الكتاب المقدس” في العهد الجديد للإشارة إلى نص مسيحي محدد بدلًا من الكتاب المقدس اليهودي كانت في إشارة إلى رسائل بولس، وكان هذا في رسالة بطرس الثانية. فبحلول وقت كتابة رسالة بطرس الثانية، بعد عدة سنوات من وفاة بولس، كانت رسائل بولس قد اعتبرها بعض المسيحيين على الأقل بمثابة “كتابات مقدسة”.

يمكننا أن نرى أن التقاليد الشفوية (أقوال يسوع والقصص والتعاليم الأخلاقية، وقوائم الشهود على ظهور القيامة) كانت أيضًا منتشرة بين الكنائس الأولى، كان الناس يروون قصصًا عن يسوع في كنائسهم، على سبيل المثال، يقول بولس: بَارِكُوا عَلَى الَّذِينَ يَضْطَهِدُونَكُمْ. بَارِكُوا وَلاَ تَلْعَنُوا (رسالة بولس إلى رومية 12: 14) وهو يشبه إلى حد كبير أقوالا مماثلة موجودة في الأناجيل التي لم تكتب بعد، ويتحدث عن الممارسة المسيحية للقربان، ويقول صراحةً إنه يمرر تقليدًا شفهيًا، يجب أن نتذكر أن بولس لا يمكنه الحصول على هذه الأقوال من الأناجيل لأنه على حد علمنا لم تتم كتابة أي أناجيل في هذا الوقت، ولم يتعلم بولس هذا من يسوع أثناء خدمة يسوع على الأرض، لأن بولس لم يكن من أتباع يسوع إلا بعد بضع سنوات من صلبه.

لم ير بولس يسوع أبدًا إلا في الرؤى، لذا حين يقول بولس إنه نال قولا من الرب، إما أن بولس يشير أنه تلقى هذا مباشرة من يسوع في شيء مثل الرؤيا، أو أنه يقدم إقرارًا بأن يسوع كان المصدر الأصلي لهذا التقليد الشفهي مع أنه تعلم هذه الأشياء من قبل أناس كانوا أتباعًا له، والاحتمال الأخير هو الأرجح؛ لأن هذا الأسلوب كان أسلوبًا في اللغة اليونانية التقليدية يتعلق بنقل التقاليد الشفهية.

كان إنجيل مرقس أقدم إنجيل باقٍ والذي جمع أقوال يسوع معًا، ودمجها في سرد عن خدمته وموته حوالي عام 70م، وبعد مرقس، ظهر إنجيلا متى ولوقا، وكلاهما يستخدم مرقس كأحد مصادره. يمكننا أن نرى تلميحًا آخر حول استخدام المسيحيين المبكر “للمصادر” بما في ذلك المصادر المكتوبة، ففي مقدمة إنجيل لوقا نقرأ:

إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي الأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا، كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا الَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ الْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّامًا لِلْكَلِمَةِ، رَأَيْتُ أَنَا أَيْضًا إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيق، أَنْ أَكْتُبَ عَلَى التَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا الْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ، لِتَعْرِفَ صِحَّةَ الْكَلاَمِ الَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ

(إنجيل لوقا1: 1-4)

الرسل الأربعة لم يكتبوا الأناجيل

الأناجيل الأربعة نُشرت في الأصل دون الكشف عن هويتها، فالأسماء التي تحملها الآن أُعطيت للرسل الأربعة لاحقًا من أجل ربط الكتب بتلاميذ يسوع، لكن مؤلف لوقا، أيا كان من هو، يعترف بأنه أجرى بعض الأبحاث، وجمع أقوالا عن المسيح، لقد قرأ مصادرًا مكتوبة، ومن بين تلك المصادر المختلفة، الشفوية والمكتوبة، جمع إنجيله عندما بدأت تنتشر أقوال وقصص متضاربة عن يسوع. يبدو أنه كانت هناك مواد مكتوبة أخرى متداولة خلال تلك الفترة، وكان هناك بالتأكيد العديد من التقاليد الشفوية التي تم تناقلها.

يميل الإنسان المعاصر إلى الاعتقاد بأن النص المكتوب يقدم تفسيرًا أفضل من الكلام الشفهي، غالبًا ما نفترض أن الكتابة أكثر موثوقيه من الشائعات، أو الإشاعات، أو التقاليد الشفوية. لكن يبدو أن بعض القدامى لم يعتقدوا ذلك مثلنا، فالطريقة التي صكها في أساليب المجادلات، على سبيل المثال، غير مكتوبة، أي شفوية فقط.

كتب القديس بابياس أسقف هيرابوليس بآسيا الصغرى عن هذه المسألة حوالي 130 أو 140م:

كما أنني لن أتردد في أن أضع لك، جنبًا إلى جنب مع هذه الشروح، سردًا منظمًا لجميع الأشياء التي تعلمتها بعناية وتذكرتها بعناية من الكبار؛ لأني صدقت على حقيقتهم، لأنني على عكس معظم الناس، لم أستمع إلى أولئك الذين لديهم الكثير ليقولوه، ولكن فقط أولئك الذين علموا الحق، وليس أولئك الذين يتذكرون الوصايا من الغرباء، ولكن فقط أولئك الذين يتذكرون الوصايا التي أعطيت بأمانة من قبل الرب والتي تنبثق من الحق نفسه، ولكن كلما وصل شخص ما كان رفيقًا لأحد القدماء، كنت أتحرى الدقة بعناية بعدما ينتهي عما قاله أندراوس أو بطرس أو فيبلس أو توما… لأني لم أفترض أن ما يخرج من الكتب ينفعني بقدر الصوت الحي والثابت

('s Exposition of the Oracles of the Lord in Ecclesiastical History 3.39.3-4)

لم يكن بابياس قادرًا على مقابلة أي من الرسل الأصليين، لأنهم ماتوا منذ فترة طويلة، فبحث عن كبار السن الذين ربما كانوا يعرفون التلاميذ الأوائل، هذا الاقتباس مثير للاهتمام؛ لأنه يقدم على الأقل وصفًا مثاليًا لاستمرار التقليد من يسوع حتى القرن الثاني (مدى دقة وصحة هذا التقليد تاريخيًا هو أمر آخر). وتظهر لنا كلمات بابياس أن بعض المسيحيين على الأقل كانوا يثقون بـ”الصوت الحي” للتقاليد أكثر من الوثائق المكتوبة.

مذكرات الرسل

عاش الشهيد في منتصف القرن الثاني واستشهد من أجل الإيمان حوالي عام 150م. ولم يذكر الأناجيل الأربعة صراحةً، بدلًا من ذلك، تحدث عن “مذكرات الرسل”، وعلى الرغم من أنه لم يذكر أيًا من الأناجيل، إلا أننا نعلم أنه بحلول هذا الوقت، كانت العديد من الأناجيل المكتوبة موجودة.

إلى جانب الأناجيل الأربعة التي شكلت في النهاية جزءًا من العهد الجديد -متى ومرقس ولوقا ويوحنا- عُرفت العديد من الأناجيل الأخرى، ومن أشهرها إنجيل توما،  وكانت هناك أناجيل بأسماء مريم، وبطرس، ويهوذا الذي تم اكتشافه لاحقًا، وكان لكل منها شهرته في مناطق معينة.

لكن، مع كل هذه الأناجيل المختلفة، كيف انتهى بنا الأمر مع الأربعة أناجيل الحالية؟

تشكيل القوائم الكنسية

إن أول قائد للكنيسة توصل إلى تشكيل قائمة قانونية كان “”، رجل من آسيا الصغرى (تركيا الحديثة) جاء إلى روما في النصف الأول من القرن الثاني، كان مرقيون رجل أعمال ناجحًا، وربما كان صانع سفن. أعطى الكنيسة الرومانية مبلغًا كبيرًا من المال وتم الترحيب به وتكريمه في البداية، وتنيح حوالي عام 160م.

بدأ مرقيون بتعليم عقائد عن الله والكتب المقدسة اليهودية تتعارض مع آراء الكثير من بقية الكنيسة، قال مرقيون إن إله العهد القديم، ليس إله العهد الجديد الذي يتحدث عنه يسوع، كما قال إن إله العهد القديم، الإله الخالق، موجود بالفعل، لكنه إله فاشل وشرائعي ولديه جسد مادي. بينما الله الذي يتحدث عنه يسوع هو إله النعمة والمحبة والعدل والرحمة. استخدم مرقيون الكتابات التي شكلت الأسفار القانونية للعهد القديم لاحقًا، فقط كدليل على أن الإله المصور هناك لا يمكن أن يمثله يسوع المسيح. لذلك رفض مرقيون قانونية أسفار العهد القديم.

علّم مرقيون أيضا أن المسيحيين الآخرين الذين فسروا الكتاب المقدس اليهودي “رمزيًا” أو “مجازيًا” حتى يتمكنوا من تقديم إله العهد القديم كإله يسوع المسيح، كانوا يمارسون ممارسات تفسير كتابية غير شرعية. إذ كان يجب عليهم قراءة هذه النصوص “حرفياً”، لكنهم إن فعلوا ذلك، سيجدون هناك إلهًا غاضبًا منتقمًا، وليس الإله الذي مثّله يسوع المسيح.

بدلا من الكتاب المقدس اليهودي، اختار مرقيون إنجيل لوقا فقط.

لماذا لوقا؟

يبدو واضحًا أن بولس كان رسول مرقيون المفضل؛ لأن مرقيون علّم أن الرسل الآخرين قد غشوا الإنجيل الأصلي الذي علّم به يسوع المسيح من خلال إدخال التهويد، بينما احتفظ بولس بالإنجيل الحقيقي الخالي من اللوائح والكتابات اليهودية. كما أن بولس قد علم أن الأمميون لا يحتاجون إلى الحفاظ على الشريعة اليهودية؛ كما علمهم بولس أنه يجب عليهم عدم محاولة إتباع الشريعة اليهودية (راجع غلاطية ٥: ٢-٤).

اعتقد مرقيون أن بولس كان الرسول الوحيد الذي فهم المسيحية بشكل صحيح. ولقد رأينا أن لوقا كان معروفًا برفيق بولس، وفي هذا الوقت أصبح اسم لوقا مرتبطًا بالإنجيل الثالث. من المحتمل أن يكون مرقيون قد اختار إنجيل لوقا من بين الكثيرين بسبب ارتباطه المفترض ببولس. كما أضاف مرقيون عشر رسائل لبولس مع إنجيل لوقا، وكون بذلك أول “كتاب مقدس” مسيحي.

لاحظ أنه في أناجيلنا، بولس يُنسب إليه كتابة ثلاث عشرة رسائل، لكن مرقيون لم يُدرج في تقنينه لأول “عهد جديد”، ما ندعوه “الرسائل الرعوية”: تيموثاوس الأولى والثانية وتيطس. لا يمكننا أن نكون متأكدين لماذا، لكني أعتقد أن مرقيون لم يكن يعرفها. وبدراسة تلك الرسائل، سنكتشف أن بولس لم يكتبها بنفسه، وربما لم يتم تداولها حتى القرن الثاني.

في الواقع، عدم معرفة مرقيون الواضح لها يقدم بعض الأدلة على ذلك. فربما لم يتم كتابتها حتى منتصف القرن الثاني. ربما لاحظت أنه حتى في إنجيل لوقا وبولس، هناك اقتباسات من نصوص العهد القديم على أنها كتاب مقدس، وأن يلعب دورًا في رسائل لوقا وبولس. يبدو أن مرقيون نسب هذه المقاطع إلى تدخل الرسل الشرير “لتهويد” الكلمة، لأنهم غشوا حتى خير النصوص التي قبلها مرقيون. أكد نقاد مرقيون اللاحقون أن مرقيون تخلص من تلك المقاطع في لوقا وبولس بحذفها. نقح مرقيون لوقا ورسائل بولس، وكانت تلك النسخة المحررة هي ما حدده على أنه “الكتاب المقدس” المسيحي.

تم وصف مرقيون بالمهرطق من قبل هؤلاء المسيحيين الذين تم تعريفهم لاحقًا على أنهم أرثوذكس. وطردته الكنيسة في روما وأعادت له أمواله. بالطبع يجب أن نضع في الاعتبار أن القرون الأولى كان بها أنواع مختلفة من المسيحية. ففي القرن الثاني، لم يكن هناك اتفاق على الخطوط الفاصلة بين “الأرثوذكسية” و”البدعة”. لذلك، فحتى الحديث عن مرقيون باعتباره “مهرطق” وعن أولئك الذين قبلوا كلا من الكتاب المقدس اليهودي والأناجيل كأرثوذكس حقيقيين يمثل مفارقة تاريخية؛ فنحن بذلك نصف أرثوذكسية عصرنا فقط.

يمكننا أن نقول إن من رفضوا تعاليم مرقيون هم من انتصرت رؤيتهم في القرنين الرابع والخامس، فتم إعتبارها عقائدا مسيحية أرثوذكسية. هكذا صادف الأمر أن انتصرت أرثوذوكسيتهم على الأرثوذكسيات الأخرى. من اللافت للانتباه أن المسيحي الأول الذي أتى بأول قائمة موثوقة للكتاب المقدس تم رفضه لاحقًا باعتباره مهرطقًا – ويرجع ذلك أساسًا إلى رفضه لإله إسرائيل والكتاب اليهودي.

في القرن العشرين، اعتقد العلماء أن قائمة مرقيون كانت حافزًا رئيسيًا للمسيحيين الآخرين ليخرجوا قوائم للكتاب المقدس، فإذا لم يقبل أحد قائمة مرقيون، ما البديل الذي يجب اقتراحه؟ وهل يجب على الكنيسة تفضيل إنجيل معين على باقي الأناجيل؟ وماذا يجب أن يقرأ في الكنيسة؟ بدأ بعض الكتاب المسيحيين في القرن الثاني يجادلون هكذا، وبأن الكنيسة يجب أن تقبل الأناجيل الأربعة التي اعتقدوا أنها مرتبطة حقًا بمتى ومرقس ولوقا ويوحنا. فهل كان هذا رد فعل على اختيار مرقيون للوقا فقط؟

كانت هناك طرقا أخرى للتعامل مع المشكلة. أخذ تاتيان، أحد تلاميذ يوستين الشهيد، الأناجيل الأربعة ونسجها معًا لتشكل كتابا واحدا عرف باسم دياتيسارون، وهي كلمة يونانية تعني “رباعية”.

وبدأت الناس تفضل أناجيل على غيرها. مثلا، اعتقد بابياس الأسقف أن مرقس قد تبع بطرس إلى روما وكتبا نسخة بطرس للإنجيل. لذلك إنجيل مرقس أقرب إلى إنجيل بطرس، الأقرب إلى يسوع.

يبدو أن الآخرين فضلوا متى الذي كان، قبل الجميع، واحدًا من الأثنى عشر.

كان كاتب إنجيل يوحنا أيضًا يعتبر أنه كان تلميذا ليسوع، ويبدو أن يوحنا كان مفضلا لدى المسيحيين في القرن الثاني،

المشكلة مع كل هذا، من منظورنا الحديث هي أن بابياس وهؤلاء المسيحيين الأوائل لم يعرفوا حقًا ما الذي كانوا يتحدثون عنه.

بابياس، على سبيل المثال، يعتقد أيضًا أن إنجيل متى كتب في الأصل باللغة العبرية وترجم إلى اليونانية لاحقًا. هذا غير صحيح على الإطلاق، الواضح للعلماء المعاصرين أن متى كتب باليونانية. وإذا كان بابياس مخطئًا جدًا بشأن تلك الحقائق التي يمكننا التأكد منها، ربما لا ينبغي أن نثق به بشأن الأمور التي ليس لدينا أي دليل آخر عليها سوى شهادته.

لذلك يشك العلماء المعاصرون في التقاليد القديمة: يشكون أن مرقس كان تلميذ بطرس الذي كتب نسخة بطرس من البشارة، وأن إنجيل متى كتبه التلميذ الفعلي متى؛ وأن يوحنا كتبه يوحنا. فقد تم نشر الأناجيل الأربعة بشكل مجهول لأنها كتبت بدون أسماء مؤلفين. وتعود الأناجيل الأربعة إلى القرن الأول، في حين أن معظم الأناجيل “غير المتعارف عليها” التي نمتلكها ربما تمت كتابتها في القرن الثاني أو لاحقا نتيجة تداول التقليد الشفوي والمكتوب عن يسوع.

القوائم الكنسية اللاحقة

هناك قائمة كنسية مهمة عرفت بموراتوري، تم اكتشافها، إلى جانب بعض التعليقات على الكتب المختلفة من قبل لودوفيكو أنطونيو موراتوري (وتم إطلاق اسمه على القائمة) ونشرها في عام 1740.

قد تكون تلك القائمة هي أقدم قائمة أساسية، يرجع تاريخها إلى حوالي 200م. البعض يشير إلى أنها تعود إلى القرن الرابع، وربما في وقت متأخر يصل إلى حوالي 400م. وبالنسبة لي، لا يهم تاريخ المستند الآن. المهم هو أن واضع القانون الموراتوري يتضمن أسماء الكتب التي يجب أن يعتبرها المسيحيون كتبا مقدسة والكتب التي لا يجب عليهم تقديسها. ونلاحظ أنه يستبعد بعض الكتب لا لأنه يراها سيئة بل لأنها فقط ليست أساسية. ونلاحظ أيضا أنه يتضمن كتبًا ليست موجودة في كتابنا المقدس الحالي.

تضمنت القائمة سفر “رؤيا بطرس” لكنه غير مدرج في كتبنا المقدسة حاليا. ولدينا سفر “حكمة سليمان”، لكنه ليس قانونيا في كل الكنائس الآن. ورفض واضع القائمة الاعتراف بعدة كتب بالاسم، اثنان منها موجودان في العهد الجديد حاليا، وهما عبرانيين، ورسالة يوحنا الأولى. من اللافت للنظر إن القانون الموراتوري يتفق مع كتابنا الحالي في عدة أمور، فهو يبدأ بإنجيل متى ومرقس، لكنه يختلف أيضا عما أصبح فيما بعد شريعة العهد الجديد المقبولة بشكل عام.

رسالة أثناسيوس الفصحية

المستند الأول الذي يحتوي على قائمة تطابق ما لدينا، يعود إلى سنة 367م، وهي رسالة كتبها أسقف الإسكندرية . يظن البعض أن أثناسيوس بذلك الخطاب قد أنهى الجدل ووضع التقنين الأخير للكتاب المقدس. لكن هذا غير صحيح. فقانون أثناسيوس كان خاص بمدينة الإسكندرية فقط، وكان لباقي في البلاد الأخرى كتابها الخاص، ولم تكن ملزمة برأي أثناسيوس. ولا يوجد دليل تاريخي على اتفاق تم بين الكنائس على قانون أثناسيوس. فالجدل حول الكتب القانونية قد استمر حتى القرنين الخامس والسادس.

اختراع الكتاب

في القديم، لم يعرف المسيحيون فكرة الكتاب الواحد الذي نعرفه الآن. فالكتب القديمة كانت على شكل رسائل أو لفائف من الورق. كانت كل كنيسة تختار كتبها بسهولة؛ فببساطة، وضعت الرسائل في صندوق وكان بإمكان الكنيسة إخراج الكتب التي ترفضها من الصندوق بسهولة. لكن حين تم اختراع فكرة الكتاب الواحد ليوفر الوقت والجهد في الانتقال بين الرسائل بسهولة أثناء القراءة، ألزم ذلك المسيحيون أن يجلسوا معا ويتفقوا على الكتب القانونية؛ لأن إزالة الكتب لم تعد سهلة بعد.

مخطوطات

لدينا قائمة مخطوطة “تشلتنهام” التي تعود لعام 350م وهي تشمل الأناجيل الأربعة، وتستثني رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين، ورسالة يعقوب، ويهوذا. ومن المثير للاهتمام، أنها تجادل بأن عدد كتب العهد الجديد يجب أن يكون بالضبط أربعة وعشرين، لأنه وفقًا لرؤيا 4:10، هناك أربعة وعشرون شيخا يحيطون بالله في غرفة العرش السماوية. ولدينا المخطوطة السينائية يعود تاريخها أيضًا إلى حوالي 350م، وهي تضمن رسالة وهرماس الراعي، وكلاهما لا نذكرهما في كتابنا المقدس الآن.

اتفاق بطيء وغير كامل

إن الاتفاق على الكتاب المقدس الحالي أخذ قرونا طويلة، وهذا ما نجده بالرجوع للقوائم الأولى، فبين القائمة والأخرى مئات السنين، وكل قائمة ليست كالأخرى. حاول الأساقفة في مختلف المدن إصدار المراسيم، لكنهم لم ينجحوا أبدا في توحيدها على الجميع. وحتى اليوم، لم تتفق الطوائف حول الكتاب المقدس الذي بين أيدينا. وهناك أسفار غير قانونية في تعتبرها الكنائس الأخرى قانونية.

أسباب التضمين والاستبعاد الكنسي

أحد الأسباب التي تتبادر إلى الذهن بالنسبة للعديد من المسيحيين هو أن المسيحيين قد قننوا الكتب الموحى بها، وهذا ليس السبب الذي قد يعطيه المسيحيون القدامى، فقد آمنوا أن العديد من النصوص بها أنفاس الله وأن هناك تدرجات مختلفة من الإلهام. لذلك، أن يكون النص موحى به من الله لم يكن سببا كافيا لتقنينه بالنسبة للقدماء، فالمهم هو التصديق الرسولي، حتى لو عرفوا أن الرسل لم يكتبوا الإنجيل شخصيًا، يجب أن يكون المؤلف وثيق الصلة بالرسل. لذلك إذا كان هناك كتاب لا يريدون تضمينه في الكتاب المقدس لأي سبب من الأسباب -لنقل لأنهم لم يتفقوا مع فكره اللاهوتي- كانوا يحاولون إثبات أنه لم يكتبه أحد الرسل.

ولعب القبول الشعبي أيضا دورا بارزا في عملية الاختيار، على سبيل المثال، كانت أناجيل توما تحظى بشعبية كبيرة في سوريا والشرق، لكن مع الوقت، فضل المسيحيون تقديس الأناجيل الأكثر قبولا من الجميع، وبالتالي الأسباب يمكن جمعها في ثلاثة نقاط وهي:

١) الاقتراب من زمن يسوع قدر الإمكان؛ إذ كانوا يفضلون الكتب الأقدم زمنا على غيرها.

٢) الشعبية العامة والجغرافية؛ فالنصوص التي كانت الأكثر انتشارًا في مناطق جغرافية أكبر هي التي تم قبولها في النهاية على أنها قانونية.

٣) العقيدة واللاهوت؛ كان المسيحيون يفضلون الوثائق التي تثبت صحة عقائدهم ويرفضون الكتب التي يفضلها خصومهم اللاهوتيين.

فبطرس الثانية قد تم إدراجها رغم حداثتها زمنيا، ورغم أنها بالتأكيد لم يكتبها ال، لأنها تدعم معتقدات لاهوتية ضد خصوم الأرثوذكسية في ذلك الوقت. كما تم رفض رسالة العبرانين؛ لأنهم اعتقدوا أن الكاتب كان متساهلاً للغاية في أخلاقياته. فقد علّم العبرانيون أن من تاب عن خطايا خطيرة ارتكبها حتى بعد المعمودية يمكن أن يُغفر له -وهو تعليم يرفضه الأرثوذكس الأكثر صرامة أخلاقياً. إن تضمين بطرس الثانية ومحاولات استبعاد العبرانيين كلاهما يظهران مركزية العقيدة واللاهوت في تطوير الكانون.

المسيحية بدأت متنوعة

من المثير للسخرية أن نقول إن المسيحيين أدرجوا تلك الكتب التي اعتبروها صحيحة لاهوتياً؛ علينا أن نسأل، “صحيحة وفقا لمن؟” ففي القرن الثاني، لم يكن هناك خط واضح بين أسس العقيدة والبدع. إن المسيحية بدأت متنوعة قبل أن يحدث أي اتفاق حول الإيمان في المجامع، مسيحيو القرنين الثاني والثالث الذين نتجت عنهم عقائد نيقية و -كانوا هم الذين لديهم أعظم تأثير على اختيار الكتاب المقدس وهم من رسموا معالم الأرثوذكسية. ففي النهاية، التقنين هو قائمة وضعها الفائزون في الجدل التاريخي لتحديد المسيحية الصحيحة.

إضافة من المترجمة: "لأني لم أفترض أن ما يخرج من الكتب ينفعني بقدر الصوت الحي والثابت". (بابياس) هكذا رأى أحد أساقفة الكنيسة الأولى مسألة الوحي: الكتب ليست أفضل من التقليد الشفهي، لأن اللغة المكتوبة لن تكون واضحة مثل الحديث الحي، العامي، النقاشي، المتبادل. الحرف قاصر ولا يمكن أن يعطينا فهما كاملاً لأي شيء، وعلينا أن نتقصى حقيقة ما نقرأه. قد يكون تقنين الكتب المقدسة التي بين أيدينا قد تغيّر مرارا وتكرارا، وحتى أسس الإيمان نتجت عبر قرون من التخبط والتنوع بين طوائف مختلفة. على سبيل المثال، آمن بعض المسيحيين الأوائل (الأيبونيون) إن الله قد تبنى يسوع في المعمودية، ولم ينتصر فكرهم، لكن مسألة انتصار رأي على آخر يرجع لأبعاد كثيرة منها عدد المؤمنين بصحة الرأي وسلطتهم، لأننا في النهاية لن نتمكن من معرفة جوهر الله والغيبيات بشكل قاطع. سفر الرؤيا ليوحنا، الموجود في كتبنا الآن، تم رفضه من قبل الكنيسة الأرثوذكسية من قبل، وها نحن الآن نعده قانونيا: أدرج أثناسيوس الرسولي سفر الرؤيا كسفر قانوني، ولكن عارض ذلك يوحنا ، وغريغوريس  ولم يدرجاه في قوائمها. في النهاية، تذكر أن النص الذي تجعل منه سيفا حاسما على رقاب المؤمنين، كان من الممكن أن يتم استبعاده من كتابك المقدس الحالي. (كرستينا عزيز)

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

ديل بي مارتن 1

ديل بي مارتن

أ. د. الدراسات الدينية للعهد الجديد في جامعة ييل  [ + مقالات ]
[ + مقالات ]