سفر أيوب، الذي يرجح المؤرخون أنه يعود إلى القرن السادس قبل الميلاد، يعد أحد أصعب كتب الكتاب المقدس بالنسبة للعديد من الحديثين للقراءة لأن استنتاجاته مخالفة للمعتقدات الدينية الأساسية للتوراة وبعض الأسفار الحكمية. قبل أن نبدأ في تحليل السفر، من المهم جدا أن نأخذ اتهامات أيوب ضد الله على محمل الجد؛ لأن السفر يوضح أن الرب تعامل مع اتهامات أيوب بجدية، ولم ينكرها على الإطلاق. كما يؤكد السفر صدق رؤية أيوب وكذب رواية أصدقائه.
نظرة عامة
يهاجم سفر أيوب التقوى التقليدية المتفائلة التي يصورها سفر الأمثال؛ إذ يشكك أيوب في وجود نظام كوني أخلاقي، ويثير عدة أسئلة في الذهن:
(1) لماذا يسمح الإله بالظلم الصارخ والمعاناة والشر بلا أسباب؟
(2) هل يؤدي الألم إلى الفضيلة والتقوى؟
(3) هل البشر صالحون فقط لأن الإله سيكافئهم على ذلك، أم أنهم صالحون بسبب القيمة الجوهرية أو المتأصلة في البر (حبا في البر ذاته؛ لا سعيا وراء مكافأة)؟
التشريح الأدبي للسفر
من الناحية الأدبية، يحتوي كتاب أيوب على عنصرين أساسيين: العنصر النثري والعنصر الشعري، يحكي الراوي من خلالهما قصة رجل صالح صارم اسمه أيوب، يمر بكارثة مروعة. وربما كانت تلك القصة أسطورة شعبية قديمة في بلاد الشرق الأدنى؛ فالقصة لا تحدث في إسرائيل بل في أدوم، وأيوب ليس إسرائيليًا بل رجلًا شرقيًا يسكن في بلدة عوص القديمة.
ومع ذلك، فإن المؤلف الإسرائيلي لا يقتبس الأسطورة فحسب، بل يضيف لها حوارًا شعريًا مطولًا (يصل طوله إلى تسع وثلاثين فصلًا) في منتصف هذه الحكاية الشعبية المعتادة. تؤدي إضافة هذا العنصر الشعري إلى قلب مغزى الأسطورة رأسا على عقب. تقوم وظيفة الحوار الشعري على الاحتجاج على ظلم الكون والإله، على عكس وظيفة النص النثري، الذي ينادي بتقبل المصير. تم بالفعل التلميح إلى هذه الثنائية المتناقضة من خلال اسم أيوب المتناقض المعنى؛ فهو يعني “العدو” بالعبرية من جهة و”التائب” بالآرامية من جهة أخرى.
يحتوي الإصحاحان الأول والثاني على مقدمة نثرية عن أيوب الورع والمزدهر ودماره نتيجة التحدي الذي واجهه الرب. وفي نهاية المقدمة، يحضر ثلاثة أصدقاء لتعزيته والجلوس معه في صمت لمدة سبعة أيام. وبعد أسبوع الحداد هذا، لا يصمت أيوب وأصدقاؤه؛ بل يتم تمثيل خطابهم في المقطع الشعري الكبير الذي يمتد من الإصحاح 3 إلى 42: 7.
القصة النثرية
يجري الحديث على ثلاثة مقاطع: يفتح أيوب الحوار في كل مقطع، ثم يتحدث أصدقاؤه بنمط منتظم، أولًا أليفاز، ثم بلدد، ثم صوفر. تصوير الراوي لأيوب ككقائد للحوار يجعله صاحب الكلمة الأولى والأخيرة فيه. في البداية، يسعى الأصدقاء لتعزية أيوب وتبرير معاناته، لكنهم يزدادون برودة مع الوقت، ويتجهون إلى ازدراء قاسٍ لحالة أيوب. يُختتم هذا القسم بخطاب طويل لأيوب (29-31) يأسف فيه على فقدان حياته السارة الماضية، ويقر ببراءته ويدعو إلهه للإجابة. ثم يظهر إليهو، وهو صديق رابع لم يعلن عنه من قبل، ليلقى أربع خطابات (32-37) يوجه فيها اللوم إلى أيوب ويدافع عن العدالة الإلهية. ويتبع ذلك حديث شعري بين يهوه – الذي يطرح سلسلة من الأسئلة البلاغية – وأيوب – الذي يبدو نادمًا. ينقسم هذا القسم أيضًا إلى أربعة أجزاء: خطبتان طويلتان للرب وخطابان قصيران لأيوب. خاتمة نثرية ختامية تبرر عمل أيوب. ينتقد الرب الأصدقاء، وترى نهاية سعيدة غير متوقعة إذ يستعيد أيوب ثروته، ويموت بسلام.
بر أيوب
تبدأ القصة بتقديم أيوب، كرجل مستقيم وخالٍ من اللوم، يخاف الرب ويبتعد عن الشر. وهكذا يقدم السفر براءة أيوب في السطر الافتتاحي كحقيقة سردية غير قابلة للنقاش، يقر بها الراوي. ورغم براءته وتقواه، يقع أيوب ضحية للشيطان.
الشيطان: المحقق في مجلس يهوه
لا يجب أن نمزج بين شخصية الشيطان المتعارف عليها وشخصية الشيطان في هذا السفر تحديدًا. مبدئيا، الشيطان غير موجود في العهد القديم كخصم شرير لله؛ هذه الخصومة تظهر في العهد الجديد فيما بعد. يرد الشيطان أربع مرات في العهد القديم (أيوب 32: 22، زكريا 3: 1-4، أخبار الأيام الأول 21: 1) بصفته عضو في المجلس الإلهي (أحد أتباع يهوه)، ووظيفته التحقيق في شؤون البشر على الأرض بصفته المدعي العام الذي يقدم الأشرار إلى العدالة. مع الوقت، يفقد المصطلح هذا المعنى في الفكر اليهودي والفكر المسيحي، ويتخذ الشيطان دور الخصم. تطور هذا المفهوم اللاحق للشيطان كوسيلة مفيدة لشرح وجود الشر في العالم دون أن ينسبه مباشرة إلى الله. لكن الخصومة ليست وظيفة الشيطان في قصة أيوب؛ لأن المدعي أو المحقق هنا يعمل مع الرب.
حوار الله والشيطان
يتساءل المدعي ما إذا كانت تقوى أيوب صادقة. فربما يكون الدافع خلفها هو المصلحة الذاتية. لما كان أيوب ينعم بمثل هذا الثروة والازدهار، فهو بطبيعة الحال تقي وصالح. ولكن هل تنجو تقواه من العذاب والبلاء؟ إذا فقد ماله أفلا يلعن الرب؟ إن الرب واثق من أن تقوى أيوب ليست سطحية أو مدفوعة بالرغبة في المكافأة، ويسمح للشيطان أن يختبر أيوب. يقتل الشيطان كل أبناء أيوب، ويدمر كل ماشيته وممتلكاته. ويصبح رد فعل أيوب هو:
عُرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَعُرْيَانًا أَعُودُ إِلَى هُنَاكَ. الرَّبُّ أَعْطَى وَالرَّبُّ أَخَذَ، فَلْيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكًا.
(سفر أيوب 1: 21)
فِي كُلِّ هذَا لَمْ يُخْطِئْ أَيُّوبُ وَلَمْ يَنْسِبْ للهِ جِهَالَةً.
(سفر أيوب 1: 22)
يثني الرب مرة أخرى على أيوب للشيطان، قائلًا:
وَإِلَى الآنَ هُوَ مُتَمَسِّكٌ بِكَمَالِهِ، وَقَدْ هَيَّجْتَنِي عَلَيْهِ لأَبْتَلِعَهُ بِلاَ سَبَبٍ.
(سفر أيوب 2: 3)
ردا على ذلك، يقترح الشيطان زيادة المعاناة، ويوافقه الرب على شرط الحفاظ على حياة أيوب. ثم يضرب الشيطان جسد أيوب بقروح رهيبة ومؤلمة في محاولة لسحق روحه. تغضب زوجة أيوب وتقول: «أَنْتَ مُتَمَسِّكٌ بَعْدُ بِكَمَالِكَ؟ بَارِكِ اللهِ وَمُتْ!» (سفر أيوب 2: 9). “بارك” هنا بديل لـ”العن”، كتعفف لفظي من المترجم. ويستمر أيوب في رفضه للمعصية. يصر على البقاء فاضلا بلا نفع!
للوهلة الأولى، يبدو أن أيوب يقبل مصيره المرير. لكن لاحظ أنه بعد الجولة الأولى من المعاناة، يشير الراوي أنه “فِي كُلِّ هذَا لَمْ يُخْطِئْ أَيُّوبُ بِشَفَتَيْهِ” (سفر أيوب 2: 10). ربما ليس بشفتيه، ربما في قلبه، ينسب أشياء بغيضة إلى الله؟
دور النص الشعري
دون إضافة النص الشعري، يمكن قراءة تلك الحكاية الشعبية الشهيرة على أنها قصة رجل بريء اختبر معاناة مروعة، فقبل مصيره، واحتفظ بإيمانه، فعوضه الله. تبدو القصة النثرية بسيطة، ويبدو أنها تظهر القيم والتقوى التقليدية لأسفار الحكمة وسفر التثنية الذي نادى بوجوب تحمل التجربة وعصا التأديب الإلهي. لكن، هذه الرؤية ليست صحيحة.
يستخدم المؤلف المجهول لسفر أيوب الأسطورة المتعلقة بالرجل الصالح أيوب كإطار لرأي معارض للقيم التقليدية. فتلمح نهاية المقدمة النثرية (2: 10) الذي تشير ضمنيًا إلى إسناد أيوب سبب الشر إلى الله إلى الحوار الشعري المكثف، الذي يقدم اتهامات أيوب البغيضة ضد الرب. يظهر أيوب الصبور كأسد مزمجر غاضب، يتهم إلهه بسوء إدارة فادح للعالم وينفي في النهاية وجود نظام أخلاقي تمامًا. يبدو أن الوحدتين الأدبيتين اللتين يتألف منهما السفر – إطار النثر والحوار الشعري في حالة نزاع. لكنهما متشابكان كما هما الآن، يعملان معًا، أحدهما يشكل قراءتنا للآخر، ولا يمكننا فصلهما عن بعضهما البعض. على سبيل المثال، لا يمكننا أن نقبل كلام أصدقاء أيوب واتهامهم له بالخطيئة في الجزء الشعري؛ لأن النص النثري سبق وأكد على براءة أيوب. بسبب حقيقة بر أيوب، نحن نعلم أن أصدقاء أيوب يكذبون عندما يقولون إن أيوب يعاني من بعض الخطايا الخفية، وتصبح رؤية أيوب أنه لا يستحق هذه المعاناة هي الصحيحة.
أيوب يلعن الله
يرى إدوين جود أن أيوب لم يلعن الإله تمامًا في خطابه الأول، إلا أنه يلعن يوم ولادته، ويشير مرارًا وتكرارًا إلى الخلق، ويلعن بذلك كل ما أنجزه الإله بصفته خالقًا للكون ويتمنى الموت. في هذه المرحلة، لا يسأل عن سبب حدوث الكثير من المعاناة عليه، ولكن فقط لماذا عليه أن يظل على قيد الحياة، بينما هو يرغب في الموت؟ إن فكرة الخلود في السماء أو جهنم بعد الموت غير موجودة في العهد القديم على الإطلاق. فالمكافأة والعقاب خاصين بالحياة الدنيا فقط. لذا، لماذا عليه أن يتحمل هذا العناء، ويكون هذا كل شيء؟
قضية العدالة
رد أليفاز (الإصحاحات 4-5) طويل ومفصل. يبدو الرد معزي إلى أن يضخ عنصر جديد في المناقشة – قضية العدالة.
اُذْكُرْ: مَنْ هَلَكَ وَهُوَ بَرِيءٌ، وَأَيْنَ أُبِيدَ الْمُسْتَقِيمُونَ؟ كَمَا قَدْ رَأَيْتَ: أَنَّ الْحَارِثِينَ إِثْمًا، وَالزَّارِعِينَ شَقَاوَةً يَحْصُدُونَهَا
(سفر أيوب 4: 7)
رؤية أليفاز تعكس رؤية سفر الأمثال الذي يظهر الإيمان بنظام العدالة الجزائية الإلهية. أي لا يمكن أن تكون هناك معاناة غير مستحقة. المعنى الضمني هو أن أيوب استحق معاناته – وهي فكرة لم تخطر بباله على ما يبدو – ومن هنا تهيمن مسألة المعاناة غير المستحقة على بقية السفر. خطاب أيوب الثاني (6-7) مضطرب ومليء بالصور المتناقضة الجامحة التي تعكس الصدمة والألم والغضب الذي يطغى عليه الآن بسبب ربط أليفاز لمعاناته بالخطيئة، فيلجأ إلى مخاطبة الإله مباشرة. يسأل أيوب بأنه إن أخطأ، فلماذا لا يغفر الله ذنبه بدلًا من كل هذا الألم؟
“«وَلِمَاذَا لاَ تَغْفِرُ ذَنْبِي، وَلاَ تُزِيلُ إِثْمِي؟ لأَنِّي الآنَ أَضْطَجِعُ فِي التُّرَابِ، تَطْلُبُنِي فَلاَ أَكُونُ».”
(سفر أيوب 7: 21)
يرد بلدد الشوحي:
“هَلِ اللهُ يُعَوِّجُ الْقَضَاءَ، أَوِ الْقَدِيرُ يَعْكِسُ الْحَقَّ؟”
(سفر أيوب 8: 3)
ببساطة، يرى بلدد أن لكل معاناة أسباب وبركات يريد بها الله تحقيق مبادئ فاضلة. أبناء أيوب قتلوا لسبب، وهو التصدي للخطيئة. فمن الأفضل لأيوب أن يطلب الله ويبحث عن الرحمة. دفعت خطابات الأصدقاء أيوب إلى استنتاج أن الإله غير مبال بالحالة الأخلاقية. إنه لا يتبع القواعد التي يطلبها من البشر، ويبيد الشرير والصديق معًا. “إِنَّ الْكَامِلَ وَالشِّرِّيرَ هُوَ يُفْنِيهِمَا”. (سفر أيوب 9: 22)
كلمات أيوب هي أصداء لكلمات الله
يلعب التطابق اللفظي لكلمات أيوب مع كلمات الله دورًا بالغ الأهمية في فهم السفر: يردد أيوب في شكواه نفس الكلمات التي قالها الله في شكواه للشيطان نصًا في البداية حين قال للشيطان قد هيجتني عليه بلا سبب.
“ذَاكَ الَّذِي يَسْحَقُنِي بِالْعَاصِفَةِ، وَيُكْثِرُ جُرُوحِي بِلاَ سَبَبٍ.”
(سفر أيوب 9: 17)
وَإِلَى الآنَ هُوَ مُتَمَسِّكٌ بِكَمَالِهِ، وَقَدْ هَيَّجْتَنِي عَلَيْهِ لأَبْتَلِعَهُ بِلاَ سَبَبٍ.
(سفر أيوب 2: 3)
نعم، لا يوجد سبب لمعاناة أيوب. هكذا يشهد الله على حقيقة شكوى أيوب: فهو كامل، بار، يعاني من أجل لا شيء.
الله خلف القضبان
يستخدم أيوب المصطلحات القضائية ويرمي اتهامات في دعوى ضد الإله – اتهامات بالسلوك غير اللائق، لإله يرذل مخلوقاته ويبتسم للأشرار، إله تجني على البريء وهو عالم ببراءته. هذه الدعوى تضرب الأسفار النبوية في مقتل. فكما اتهم الرب الشعب من خلال أنبيائه بانتهاك صارخ لبنود عهده بما يستلزم عقابهم، ها هو أيوب يرد بالمثل، ويقول للرب أنه هو المنتهك لبنود العهد. في سفر أيوب، الإنسان هو الذي يقاضي الإله. لكن، كيف للإنسان أن يكسب القضية ضد الله؟ لِأُقَدِّمَ دَعوَايَ أمَامَهُ، وَأملأ فَمِي بِحُجَجٍ مَشرُوعَةٍ. (سفر أيوب 4: 23). يتوقع أيوب أن يُقتل -ليس بالإعدام العادل، بل قتلا على يد الإله ويأمل فقط ألا يتم إخفاء الدليل على مقتله. يَا أَرْضُ لاَ تُغَطِّي دَمِي، وَلاَ يَكُنْ مَكَانٌ لِصُرَاخِي. (سفر أيوب 16: 18).
وعاظ عديمي الشعور
وبينما تزداد العاطفة والألم في خطابات أيوب، تزداد قسوة التبريرات والعظات الدينية لأصدقائه بالمقابل. يبدو أن إصرارهم على أن المعاناة هي دائمًا علامة مؤكدة على الخطيئة يبرر العداء تجاه أيوب وازدراءه، الذي يُصوَّر الآن على أنه موضع سخرية وإهانة وإساءة عالمية. لا يسع المرء إلا أن يرى في هذا التوصيف لأصدقاء أيوب المزعومين تعليقًا قاطعًا على النزعة البشرية القاسية لإلقاء اللوم على الضحية، والقيام بذلك خشية أن تسقط صورتنا المنظمة والمريحة لعالم أخلاقي لا يعاني فيه الصالحين. يطلب منهم أيوب بلجاجة أن ينظروا حولهم ويفكروا، دون جدوى. أما الإله، فهو غائب، ويبدو وكأنه محايد أخلاقيًا.
أيوب يرفض التخلي عن أخلاقه
ينتقل أيوب إلى التهمة الضمنية بأن الله مسؤول عن الشر. ومع ذلك، حتى في أعماق معاناته، وعلى الرغم من اقتناعه الآن بأن الإله لا يفرض قانونًا أخلاقيًا على الكون، يتمسك أيوب بقيمة واحدة: البر، الذي هو فضيلة في حد ذاته. حتى إذا كان الله لا يهتم، لن يتحول أيوب إلى كائن عديم الأخلاق. وجهاً لوجه مع البصيرة المروعة بأن الخير والشر يقابلهما اللامبالاة من قبل الإله، وأن البر لا يجلب أي مكافأة والشر لا يجلب العقاب، يرفض أيوب الاستسلام رغم الحقيقة المرة – يرفض الاستسلام للعدمية الأخلاقية. “تَمَسَّكْتُ بِبِرِّي وَلاَ أَرْخِيهِ. قَلْبِي لاَ يُعَيِّرُ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِي”. (سفر أيوب 27: 6).
يناقض هذا كلام الرب والشيطان في المقدمة. هناك قال الشيطان أن الرجل لن يتمسك بالفضيلة في مواجهة المعاناة، بل سيتنازل عن كل شيء مقابل حياته. في الواقع، عندما يزول كل أمل في مكافأة عادلة، يصبح لفعل الخير قيمة جوهرية.
بطولة أيوب
تلك هي البطولة المطلقة لرجل عارٍ، تخلى عنه إلهه وأصدقاؤه، وحرم من أي دليل لفهم معاناته. ذاك هو واجب الإنسان المطلق في أن يكون فاضلاً. لقد أدار الكون ظهره له، لكن أيوب استمر في التأكيد على قيمته الخاصة والقيمة الفائقة للخير غير المجزي.
على الرغم من كل اختلافاتهما في الأسلوب، فإن أيوب الأسطورة الصبور، وأيوب الشاعر المتمرد هما في الأساس نفس الرجل -كل منهما يظل ثابتًا في شخصيته الأخلاقية- ويتشبث بالصلاح بسبب جوهره. قيمة وليس لأنه سيُكافأ: في الواقع، يبدو أن أيوب يعرف بمرارة أنه لن يكافأ. وهذا هو بالضبط السؤال الذي كان موضع خلاف بين الرب والشيطان.
تغلب العداوة بين أيوب والله على المشهد، كما يشير اسم أيوب. فمثلما يعتبره الله عدوا له، ها هو أيوب يعلن أن الله هو العدو. “لِيَكُنْ عَدُوِّي كَالشِّرِّيرِ، وَمُعَانِدِي كَفَاعِلِ الشَّرِّ”. (سفر أيوب 27: 7).
إله الطبيعة أم إله البشر؟
في نهاية ثورته، يقاضي أيوب إلهه. ويطالب الإله بأن يكشف له سبب معاناته. يلفظ أيوب سلسلة من اللعنات ليبرئ نفسه من الاتهامات الموجهة إليه، محددًا الذنوب التي لم يرتكبها وينتهي كما بدأ في الإصحاح 3 بلعنة يوم ميلاده. نتوقع أن نسمع ردا من الإله. لكن، بدلاً من ذلك، نسمع من شخص غريب اسمه إليهو.
يكرر إليهو العظات المبتذلة لأصدقاء أيوب. ومع ذلك، فهو يتراجع أيضًا، عكس الأصدقاء الثلاثة، ويقول ربما ليست كل المعاناة جزائية ويمكن للتفكير في عناصر الطبيعة أن يفتح العقل على وعي جديد بالإله. يبدو أن خطابات أيوب بدأت تحدث تأثيرا.
يتجلى الله من عاصفة أو زوبعة، موبخا: “مَنْ هذَا الَّذِي يُظْلِمُ الْقَضَاءَ بِكَلاَمٍ بِلاَ مَعْرِفَةٍ؟”. (سفر أيوب 38: 2). لكننا، لا نعلم إلى من يوجه الله حديثه. هل إلى أيوب؟ إليهو؟ الأصدقاء الثلاثة؟ الجميع؟ لقد سمع الرب بما فيه الكفاية – حان دوره لطرح الأسئلة، والإجابات.
يواصل يهوه الأسئلة البلاغية المتعلقة بخلقه للطبيعة والحيوانات. ولكن ما هو الغرض من كل هذه الأسئلة؟ وما علاقتها بشكوى أيوب؟ لقد طرح أيوب بعض التحديات المحددة: لماذا أعاني؟ هل هناك قانون للوجود؟ هل يرفض يهوه الرد على هذه التحديات مما يشير إلى عدم وجود جواب؟ هل هذه هي طريقة الرب في القول بأن عدله يفوق إدراك البشر؟ أم أن ظهور الرب في قوى الطبيعة وترتيبها هو تعارض ضمني مع العقيدة الأساسية للديانة اليهودية التي تعلم أن الرب يظهر من خلال تفاعله مع البشر؟ فالله في اليهودية هو إله التاريخ البشري وليس إله الطبيعة.
من المفهوم عمومًا أن ظهور التوحيد في إسرائيل قد أحدث انفصالًا عن المفاهيم الأسطورية للآلهة. لم يكن إله التوراة والإنجيل مطابقًا لآلهة الطبيعة القديمة في الشرق الأدنى أو الكنعانية، لأنه كان يُفهم أنه يتجاوز الطبيعة. في أكثر مصادر الكتاب المقدس توحيدًا، لا يُقابل يهوه من خلال الطبيعة، ولكن من خلال أفعاله غير المتكررة في الزمن التاريخي. هذه النظرة إلى الرب هي التي تؤكد مفهوم العدالة الجزائية برمتها. فقط الإله الصالح بشكل أساسي والذي يتجاوز القوى الطبيعية الميكانيكية ولا يخضع للقيود يمكنه أن ينشئ ويدير نظامًا للعدالة الجزائية، ويوزع العقوبة والمكافأة ردًا على تصرفات البشر في الوقت المناسب. هل يشير كاتب أيوب إلى أن التاريخ والأحداث التي حلّت بالعدل والظلم ليست وسيلة الوحي؟ هل يهوه مقيد بالطبيعة، وغير موجود في ساحة التاريخ والعمل البشري؟ إذا كان الأمر كذلك، فهذا تعارض واضح لأيوب مع التوراة.
فلسفة السفر
يريد الرب أن يقول إن العالم لا يعمل كما يفترض أيوب على الإطلاق. أخطأ أصدقاء أيوب لأنهم افترضوا أن هناك نظامًا للعدالة الجزائية في العالم (مجازة الأشرار ومكافأة الأخيار). قادهم هذا الافتراض إلى استنتاج أن كل الذين يعانون هم خطأة، وهذا غير صحيح تماما. لكن أيوب يخطئ أيضا لأنه يطالب بتطبيق نفس النظام الجزائي الذي يعترض عليه، لينجو البار من الألم بسبب بره. قاده هذا الافتراض إلى استنتاج أن المعاناة هي علامة على وجود إله غير مبالٍ أو شرير. وهو استنتاج خاطئ. باختصار، يرفض الرب أن يُنظر إليه على أنه محاسب أخلاقي. إن اعتبار يهوه كمحاسب أخلاقي يسبب عن خطأين رئيسيين: تفسير المعاناة كمؤشر على الخطيئة من ناحية (خطأ أصدقاء أيوب) ونسبة الظلم إلى الرب من ناحية أخرى (خطأ أيوب).
توبة أيوب
في خطابه الأخير، يعترف أيوب بمعرفة جديدة مباشرة عن يهوه كانت تنقصه من قبل. معرفة تقوده للتوبة.
“بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ، وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي.”
(سفر أيوب 42: 5)
وهنا المعنى الآخر لاسم أيوب – الشخص الذي يتوب. ولكن لماذا يتوب أيوب؟ من المؤكد أنه لا يتوب عن الخطيئة – لم يؤيد الرب اتهامات الأصدقاء ضد أيوب (في الواقع، سيعلن صراحة أنهم كانوا مخطئين).
“لأَنَّكُمْ لَمْ تَقُولُوا فِيَّ الصَّوَابَ كَعَبْدِي أَيُّوبَ”.
(سفر أيوب 42: 7)
يوضح الرب أن اللعبة لا تدور حول الذنب والبراءة والثواب والعقاب كما يعتقد أيوب وأصدقاؤه. بفهمه الجديد ليهوه، يتحرر أيوب من التوقعات الخاطئة التي رسخها سفر التثنية لنظام العدالة الجزائية الإلهية.
بعد هذا الحوار مع الرب، عاد أيوب إلى حياته الطبيعية. وبالنسبة للبعض، تبدو النهاية معاكسة لفكرة السفر، لأنها استسلام للنهاية السعيدة ونظام المجازاة العادل الذي يتعارض مع فحوى الكتاب بأكمله. ومع ذلك، فإن النهاية مناسبة بطريقة رائعة – فكما تأتي المعاناة لسبب غير مفهوم، كذلك تنتهي لسبب غير مفهوم.
بر بلا منفعة
لا يحاول الرب في أي مكان أن يبرر أو يشرح سببا لمعاناة أيوب، ومع ذلك، بحلول نهاية الحوار، يكون أيوب المتذمر راضيًا. ربما أدرك أيوب أن المبدأ التلقائي للثواب والعقاب سيجعل من المستحيل على البشر أن يفعلوا الخير لدوافع نزيهة بحتة. عندما يُنظر إلى البر على أنه عبثي ولا نفع له، يصبح لاختيارنا له معنى.
الخلاصة
لقد حيرت قضية الألم البشرية لآلاف السنين. ولا يقدم سفر أيوب إجابة تفسيرية أو تبريرية للألم والظلم. ما يقدمه هو تحذير صارم وواضح من خطورة التعنيف الوعظي للمتألمين سواء بافتراض شرهم أو مخاطبتهم بلسان الله. رفض أيوب التخلي عن أخلاقه وتاق لنظام جزائي عادل يحكم الكون يحميه من الألم لأنه بار. وفي النهاية، تخلى عن مطلبه؛ لأنه أدرك أن قيمة البر تكمن في أن يكون بلا مقابل.
إضافة من المترجمة: إن الفهم الصحيح لسفر أيوب هام للغاية للمتشوف إلى فهم طبيعة الوحي ككل. يتضح لنا أن الكتاب المقدس ليس كتابا واحدا يسير فيه الكتاب على نفس النهج والمنوال. بل هو مكتبة كاملة متنوعة، بداخلها مدارس تعارض بعضها البعض وتتحاور. وللقارئ دور هام في قراءة الأسفار قراءة تحليلية تفاعلية، من خلال إعمال فكره، وضميره، أو دعنا نقول النور الطبيعي الذي بداخله، الكائن قبل كل الكتب والأديان. أرى أن أيوب يقدم رؤية ناضجة تفوق رؤية التثنية والأسفار النبوية التي تجعل البر شرطا لتوسيع التخوم والحماية من الشر والسبي. فإن فعلنا البر سعيا لربح المكافأة، وتجنبنا الشر خوفا من العذاب، فأي فضل وحرية لنا؟ ربما لا يقبل البعض هذه الرؤية، مفضلا عليها العدالة الجزائية أي الإله الذي يجازي كل واحد كنحو أعماله. لكن الكتاب المقدس يقدم هاتين الرؤيتين المتعارضتين، ويتركنا مع هذا السؤال لنفكر. إن الكوارث الطبيعية تحدث لأن هذا هو حال الطبيعة -نتطفل على الطبيعة ونستغل مواردها، فتثور الطبيعة ضدنا لتتطور وتتجدد. مثلما نفترس نحن الحيوان والنبات، تفترسنا الطبيعة بجبروتها. تلك هي دورة الحياة التي تحكم العالم، والتي لا مفر منها حتى بدخول القوى الإلهية إلى المشهد. هكذا فسر كاتب سفر أيوب قضية المعاناة منذ آلاف السنين. (كرستينا عزيز)
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟