أهوال كثيرة تمر، لكن بعض الحوادث تأتي لتدق ناقوس إنذار يدعو لتغييرات جذرية. وهكذا يأتي حريق كنيسة إمبابة كاشفا عن فساد ينفذ عميقا في الكنيسة الأرثوذكسية المصرية.
يتراكم الدُّخَان، ويستمر الكاهن في أداء صلاته غير عابئ بما يحدث خلفه. ينظر الشمامسة إلى الوراء، ثم إلى الكاهن الذي يستمر في تلاوة صلاته على الذبيحة، كأن شيئا لا يحدث. هذا ما شاهدناه في المقطع المصور بواسطة كاميرات الكنيسة في أثناء الحريق.
الأطفال يتساقطون كورق الخريف، وكلمات التعزية والروحنة تصبح مبتذلة. يصرح أسقف وسط الجيزة بأن من ماتوا هم الآن في السماء لأنهم ماتوا خلال القداس، وهم في حالة توبة. وبذلك، نحن على يقين أنهم في السماء. وكأن خلاص الروح سيعزي عن الحرمان من الحق في الحياة بسبب كنيسة خالية من نظام حماية مدنية آدمي، لا تعرف السبيل إلى حماية حياة من يتردد إليها لأنها تتبنى ثقافة الموت والتواكل على الإله، والرغبة في نَيْل الشهادة التي لا تختلف عن رغبة الانتحاريين والتكفيريين.
المقطع كارثي ومؤلم، ورغم ذلك، نحن لا نعلم ماذا فعل الكاهن بعد المقطع الذي شاهدناه، ربما يكون قد شرع في صرف الناس وإنقاذهم بعد إدراكه لحجم الموقف، وربما لا. لكن، الأزمة الحقيقة تكمن في تأييد الكثيرين للإخلاص للذبيحة والأمانة حتى المنتهى. الأزمة هي عقلية من امتدحوا إيمان الكاهن العظيم الذي جعله يتمسك بالصلاة والذبيحة لأخر لحظة، فهما أهم من أرواح المصليين. لأن تركه للذبيحة سيغضب الإله الذي ذبح نفسه عن البشر بشدة. وعلى هذا، عليه الاستمرار إلى أن يلقى حتفه بصورة انتحارية مقدسة. التضحية بالبشر في سبيل الذبيحة لا تعد قتلا في عرف المؤمنين غليظي العقول؛ ورغم ذلك، يرفضون فكرة القتل بواسطة الإرهاب في سبيل الله.
منذ شهر تقريبا، حضرت قداسا في دير للكاثوليك، وأثناء القداس، سقطت فتاة في حالة إغماء، وعلى الفور، خرج الأب الكاهن من المذبح وأوقف الصلاة وذهب مسرعا نحو الفتاة، واستأنف الصلاة بعدما عادت إلى الوعي. هذا هو التصرف الإنساني الطبيعي في هذه المواقف. فماذا أصاب الكنيسة القبطية؟ ولماذا بدت متحجرة وأصولية للغاية؟
أكدت مصادر كنسية صحة الفيديو المنتشر، في استنكار لما فعله الكاهن الذي كان أمامه حل آخر، وهو أخذ الذبيحة والهروب بها. لكن، هذه التصريحات تزيد الطين بلة؛ فبدلا من أن يحمل أولاده ويهرب بهم، يحمل الذبيحة؛ لأن الإله سيكون في ورطة إذا لم يحمله الكاهن ويسرع به للهرب. تصريحات تسيء لله وتجعله بحاجة لكاهن ينقذه، وتشجع على ترك البشر لإنقاذ الطقس! إن الإيمان بسلطة الكاهن سطح الإيمان المسيحي كليا وأساء إليه شر إساءة.
قد حولوا الذبيحة، علامة فداء الإنسان، إلى وثن وعبدوها وأصبحوا على أتم استعداد لتقديم أطفالهم قرابين لها. فهل يدركون أنهم بهذا يعبدون إلها مردوخيا يرضى بتقديم الإنسان ذبيحة له؟
ترن في الذاكرة أصداء وباء الكورونا؛ الفاجعة التي شهدها كثير من الأسر في تلك المدّة: أطفال فقدت الأب والأم والجدود في وقت واحد. وفي خضم هذه المأساة، ارتأت العظات الكنسية إلى أن الإله يريد بذلك، استعادة الضالين عن الكنيسة. فهو يريد بواسطة ويلات البشر، والفزع، واليتم اغتصاب طاعة العباد له واستعادة المفقود إلى الحظيرة. ولا عزاء لمن تيتم ومن تألم؛ لأن النفس والجسد أمور لا تشغله. وطالما سيحضر الناس إلى الكنيسة، لا يمكننا أن نعد الوباء شرا.
أعود بالذاكرة إلى قصة الراهب صربامون الشايب، أمين دير القديسين بالطود، الأقصر، الذي أخبرته امرأة بأنها تحمل الوباء بعد أن تناولت الخمر، فقرر هو تحمل المسئولية كاملة وصرف الشعب وشرب وأكل ما تبقى من الإفخارستيا بعدها بمفرده. وكتب عن معاناته بعد إصابته بالوباء، والمشانق معلقة له؛ لأنه صرح بمرضه وأعزى سببه إلى التناول، مطالبا البابا بغلق الكنائس وتغيير الطقس لإيمانه بثقافة الحياة. وما أغرب ناسكا يحدثنا بحبه لهذه الحياة وتمسكه بها؛ لأن سمت الإيمان هو سمت الموت. لذلك، فبعد وفاته بكورونا، أغلق المتشددون صفحته كي تُمحى قصته التي تثبت عدم صحة نظريتهم بخصوص التناول. بل وفرحوا لموته قائلين هذا جزاء من يحب الحياة، وموته أقوى رد من السماء! الشهداء الحقيقيون مرفضون ومرذولون مثل إلههم، والمزيفون ينتصرون. يبدو أن هذا هو النمط السائد منذ فجر التاريخ المسيحي.
أصبح الموت عقب جلسة الاعتراف أو داخل القداس هو الطموح الأسمى للمواطن القبطي. تلك هي ثقافة الموت التي تجمع في نسقها الاستهانة بحياة الإنسان ونفض المسئولية عن الأكتاف انتظارا للمعجزة، وورثنا من الكوارث خلفها هذا اللاهوت الغنوصي المازوخي.
إن تفكيك ترسانة الجهل الصلبة لم يعد سبيلا لإصلاح العقيدة النظرية فحسب، بل معركة وجود وبقاء حتى نمنع المزيد من الويلات. فمتى نستفيق ونعود إلى ثقافة الحياة، والإنسانية، والنضج؟
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟