عمق "إريك پيترسون" المجادلات ضدّ أفكار "شمِتّ" التي انتشرت بقوّة، إذ كان پيترسون لاهوتيًّا مسيحيًّا ذا معرفة عميقة بآباء الكنيسة، إضافة إلى ذلك صار كاثوليكيًّا وقد يكون ذلك سببًا في إهمال مناقشاته في عصره.
يعطي پيترسون أفكارًا تستطيع أن تمنح بدائل لاهوتيّة معتمدة على الآباء ضدّ اقتراحات اللاَّهوت السياسيّ لعصره. وعبّر عن أفكاره حول اللاَّهوت السياسيّ، بتأثير من شمتّ، في كتابين رئيسّين في ثلاثينيّات القرن العشرين.
الكتاب الأوّل هو Götlische Monarchie (المَلَكيّة الإلهيّة). يتتبّع فيه مفهوم المَلَكيّة (وهي لا تتساوى مع التوحيد في رأيه)، ويُظهر كيف أنّ في التقليد الهيلّيني قدّمت المَلَكيّة تبريرًا ميتافيزيقيًّا للأباطرة الرومانيّين، وكيف صارع اللاَّهوتيّون المسيحيّون تبنّي هذه الأفكار وأخيرًا استطاع الآباء الكبادوكيّون رفض فكرة القياس أو التشابه بين المَلكيّة الدنيويّة والسلطة الإلهيّة.
يدعِّم پيترسون حجّته بأنّه في وقت مبكِّر بدا للاّهوت المسيحيّ أنّ المَلكيّة الإلهيّة لا يمكن أن تتحقّق سياسيًّا، لأنّ مفهوم المسيحيّين لله ليس مفهومًا مَلَكيًّا. واستند في ذلك على هيبوليتوس والآباء الكبادوكيّين. يستشهد پيترسون إذًا بآباء الكنيسة، ويسرد نصوصًا تؤيّد آراءه، ويخرج بهذه الخلاصة: «إنّ المَلَكيّة التي تتّخذ لنفسها غطاءًا لاهوتيًّا ستسقط حتمًا بسبب عقيدة الثالوث، وسيسقط السلام الأوغسطيّ pax Augustana بسبب الإسكاتولوجيا المسيحيّة. بهذا المفهوم لم ينته التوحيد monotheismus كمشكلة سياسيّة فحسب، بل تحرّرت المسيحيّة من قيود الإمبرياليّة الرومانيّة… السلام كما يراه المسيحيّون، لا يستطيع أن يحقِّقه أيّ إمبراطور لأنّه عطيّة من ذلك الذي يعلو كلّ فهم».
يرفض پيترسون إذن إمكانيّة وجود لاهوت سياسيّ ولا ينتقد شمِتّ فحسب، بل يضع أسسًا لاهوتيّة لمقاومة روحيّة للمخاطر السياسيّة. فلا يرفض پيترسون تمثيل الكنيسة أمام المجتمع، مع الحفاظ على الفصل بين الدين والدولة. فبالنسبة له التمثيل الأخرويّ لملكوت الله يتطلّب رفض كلّ محاولة لمطابقة ملكوت الله مع أيّ ملكوت أرضيّ. وهو مع ذلك، يرفض أن يكون الدين أمرًا شخصيًّا، ويرفض أن ينسحب الدين من الساحة العامّة، أمام العلمانيّة المسيطرة المتمثِّلة في الأفكار الاقتصاديّة. فالدين هو صيغة ترتبط بعامّة الشعب، وتتطلّب حضورًا عامًّا للكنيسة، نابعًا من شهادتها للتجسّد بأن يكون الله الكلّ في الكلّ، معطية بذلك شهادة أخرويّة في قلب المجتمع بواسطة صلواتها وممارساتها.
يرى پيترسون أنّ الإسكاتولوجيا سمة الكنيسة. فهي التي تمثِّل المستقبل الإسكاتولوجيّ في الزمن الحاضر. فوصول العالم إلى ملئه هو الحدث النهائيّ لمدينة الله أورشليم السماويّة. فدور الكنيسة هو مقاومة كلِّ سلطة سياسيّة تعتبر نفسها المرحلة الأخيرة للتطوّر، وأنّها نهاية التاريخ. فلا تستطيع أيّ حالة حياتيّة أو مجتمع أن يعتبر نفسه أنّه وصل إلى تكوينه الأخير، بما أنّ المجيء الثاني للمسيح لم يتم بعد. على الكنيسة أن تشهد دائمًا على الحضور الإسكاتولوجيّ بواسطة الليتورجيا وأسرار الكنيسة، حتّى يصل تاريخ الخلاص إلى تمامه.
من خلال ما سبق، نوافق شمِتّ بأنّ هيكليّات قوانين الدولة تأثّرت بلا شكّ بفكرة الألوهيّة وأنّها في أحيان كثيرة هي أفكار تأثّرت باللاَّهوت، وهي بالتالي أفكار دينيّة تعلمنت حسب تعبير شمِتّ. إلاّ أنّنا نتّفق في الوقت عينه مع پيترسون، بأنّه لا يمكن أن تتطابق فكرة ملكوت الله مع أي مملكة أرضيّة، وعلى الكنيسة أن تطوّر وتكون دائما شاهدة على الرجاء الإسكاتولوجيّ في قلب كلّ مجتمع.
Eric Peterson, Der Monotheismus als Politisches Problem: Ein Beitrag zur Geschichte der Politischen Theologie im Imperium Romanum, Leipzig, Hegner, 1935, p. 59.
Carl Schmitt, Politische Theologie II : die Legende von . der Erledigung jeder Politischen Theologie, Berlin, 1970.
جون جبرائيل، اللاهوت السياسيّ، هل من روحانيّة سياسيّة؟ دار الأكويني، القاهرة ٢٠١٥.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب نقدي: اللاهوت السياسي، هل من روحانية سياسية؟
تعريب كتاب جوستافو جوتييرث: لاهوت التحرير، التاريخ والسياسة والخلاص
تعريب كتاب ألبرت نوﻻن الدومنيكاني: يسوع قبل المسيحية
تعريب أدبي لمجموعة أشعار إرنستو كاردينال: مزامير سياسية
تعريب كتاب البابا فرانسيس: أسرار الكنيسة ومواهب الروح القدس