قليلًا ما تجود علينا الحياة بشخصيات مهمة ومؤثرة، تعمل في صمت، لا يهمها ذاتها ولا صورتها الشخصية في أعين الآخرين بقدر ما يهمها المنفعة التي تقدم للناس، شخصيات تقدم عملًا عظيمًا دون ضوضاء، شخصيات لم تُصنّع بالدعاية والحديث عنها، بل بالتعلّم والعمل الجاد، ولأننا في مصر وفي كنيستنا المصرية حظنا سيء، فعندما تظهر مثل هذه الشخصيات تختفي سريعًا، بل ويتم تدبير المكائد للتخلص منها، حتى لا تكون نموذجًا لإيقاظ النائمين من سباتهم العميق، وبالفعل كان إبيفانيوس واحدا من تلك الشخصيات فاغتالته يد الغدر.

كصحفي يتابع مِلَفّ الكنيسة وما يختص، بشئون المواطنين المصريين المسيحيين منذ عام 2011، كنت أدرك جيدا مشكلة الذي  يخضع رهبانه روحيًا للأب الراحل عن عالمنا في 8 يونيو 2006، وأعرف جيدا مشكلات البابا الراحل الأنبا مع هذا الرجل ومع الدير كليًّا، وحينما رحل الأخير في 17 مارس 2012، وجاء إلى كرسي مار مرقس ال الثاني، قرر ترتيب المؤسسة الكنسية ادريًا، فقرر حل المشكلات التي يمكن حلها ومنها تنصيب أسقف لرئاسة دير الأنبا مقار من بين رهبانه، فتم إجراء انتخابات داخلية أتت بالراهب إبيفانيوس المقاري.

تابعت خبر أول مجموعة رسامة للبابا تواضروس لأساقفة في 10 مارس 2013، وكل المعلومات التي توفرت لدي إن الراهب إبيفانيوس سيكون أسقفا لدير الأنبا مقار، ومنذ ذلك التاريخ حتى فجر اليوم المشؤوم الأحد 29 يوليو 2018، لم أسمع عن هذا الأسقف كثيرا كصحفي من المفترض أنه يتابع مِلَفّ الكنيسة، ربما كان هذا تقصيرًا أو كسلًا مني بعدم السعي لإجراء حديث صحفي معه أو التعرف على رئيس واحد من أهم الأديرة في تاريخ كنيسة مصر، ولكن حتى زملائي من الصحفيين والصحفيات الذين سعوا لذلك لم يستطيعوا إجراء ذلك الحوار بالرغم من مقابلة الأنبا إبيفانيوس الودودة لهم.

إبيفانيوس الذي لم أكن أعرفه على الإطلاق سوى اسمًا، عرفته جيدا بعدما نالت منه يد الغدر  بالقتل بتلك الطريقة الوحشية، وينطبق عليه “قارورة الطيب إذا انكسرت فاحت رائحتها”، فاهتمامي بمتابعة قضية مقتل الأنبا إبيفانيوس رئيس دير الأنبا مقار، جعلني ابحث عما تركه وفعله هذا الرجل في حياته حتى يصل به الأمر إلى القتل، فعرفته عن قرب من محاضراته المسجلة بالفيديو في أكثر من مكان ومن كتبه ومقالاته، ومن تصرفاته الواضحة، ومن المعلومات التي تسربت فيما بعد عما يمكن أن نطلق عليه “المواقف المستنيرة” داخل مجمع أساقفة ، في مواجهة الرجعية والتشدد في موضوع مثل “ الحائض”.

إبيفانيوس الذي لم أكن أعرفه 1

اكتشفت أن هناك مجموعة من الشباب المحظوظ المهتمين بالدراسة في حقل اللاهوت تقابلوا مع إبيفانيوس، ولكل منهم موقف شخصي معه تعلم منه شيئا جديدا، وبحق كان رجلا عالما قليلا ما تجود كنيستنا بمثله، يعرف جيدا عدة لغات قديمة وحديثة، مما مكّنه من الدراسة والترجمة والاطّلاع على المخطوطات، فكان دائما ما يأتي بالقديم اﻷصيل الذي لا نعرفه، ويصدمنا لأننا نطلع عليه أول مرة، مثلما أخرج مخطوط للبابا خريسوذلوس البطريرك الـ66 (1046- 1077م)، عن عدم إعادة المعمودية مع الكنائس الخلقدونية التقليدية، ولعلنا نتذكر اتفاق كنيستي روما والإسكندرية في أبريل 2017 عندما زار ال مصر ووقع مع البابا تواضروس اتفاق “عدم إعادة المعمودية”، استكمالًا لما بدأه البابا شنودة الثالث والبابا عندما زار بطريرك الإسكندرية ال في مايو 1973، ووقعا اتفاق يخص الحوار اللاهوتي وتجاوز الخلافات، ولكن تم تعديل اتفاق البابا تواضروس والبابا فرنسيس من “قررنا عدم إعادة المعمودية” إلى “نسعى جاهدين” بعد ضغوط من التيار المحافظ داخل الكنيسة، ولجان من يسمّون أنفسهم ب على مواقع التواصل الاجتماعي.

تحدث إبيفانيوس عن الإصلاح بشجاعة في محاضراته، حين أجاب عن سؤال “هل المرأة نجسة”، وقال إن بداية الإصلاح هي الاعتراف بالخطأ كما في الفيديو التالي:

وهنا قدم هذا البار نموذجا فريدا في البحث والأمانة العلمية والأكاديمية، وليس هذا فقط، بل يقدم هذا الرجل ما يؤكد به أنه يعرف قيمة ، التي كانت في يوم منارة للتعليم اللاهوتي والفلسفي في القرون الأربعة الأولى للميلاد، ويعرف جيدا أن الاعتذار وتصحيح الخطأ هو من شيم الكبار، وليس العناد والمكابرة والتنصل من جود أخطاء مع إنها ملء السمع والبصر.

لا يمكن أن تذكر اسم إبيفانيوس، دون أن تذكر اسم المسيح، فالرجل قدم نموذجًا للخادم الذي يبذل نفسه من أجل الآخرين، بل يتوارى هو عن الصورة فلا يظهر ولا يشعر أحد به، ولكن تشعر بالمسيح الذي يقدمه في خدمته، فكان بعيدا عن كل مظاهر السلطان والعظمة التي تسللت إلى كنيستنا في العقود الأخيرة، وكل من تعاملوا معه ولم يعرفوه شخصيا، لم يعرفوا إنه أسقف الدير إلا إذا أخبرهم أحد بتلك المعلومة، الرجل كان يهتم بالعلم والدراسة، وكان يرفض أي مظهر تكريم لشخصه كأسقف.

لذا وبالرغم من قتل الأنبا إبيفانيوس فإنه سيظل علامة فارقة في تاريخ كنيسة الإسكندرية، وسيظل محفز حقيقي لكثير من الشباب للبحث والدراسة ونفض التراب الذي تكون عبر قرون عدّة على واحدة من أقدم الكنائس في العالم، التي لا تستحق ما آل إليه حالها عبر تلك القرون، وبالرغم من أنه نادرا ما تجود الحياة بمثل هذا النموذج، فإنه فعلًا مثل قارورة الطيب، تفوح رائحتها الآن وتخرج رائحة المسيح الذكية، ونموذج يظهر صورة يسوع  كقوله: “ليروا أعمالكم الصالحة فيمجدوا آباكم الذي في السموات”.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

بيتر مجدي
[ + مقالات ]

باحث وكاتب صحفي ومتابع للشأن الكنسي وشئون الأقليات