هناك في الطقس اللاتينيّ زمنٌ يقابل شهر كيهك لدينا في الطقس القبطيّ يُسمّى زمن المجيء. تُكرّس القراءات الطقسيّة فيه والترانيم للتأمل وانتظار مجيء المسيح. فذكرى ميلاد المسيح هي مناسبة انتظار مجيئه. فزمن المجيء هو زمن تحيي فيه الكنيسة رجائها الاسكاتولوجيّ بانتظار عودة المخلّص. بينما تركّز الكنائس الشرقيّة على ميلاد المسيح في قلوبنا وعالمنا وتهيء مؤمنيها لاستقبال المسيح مولودًا وسطنا.
هل هذا الاختلاف في التركيز على جوانب مختلفة من “الانتظار” ساهم في غياب المحتوى الإسكاتولوجي في روحانيّتنا القبطيّة؟
في أحد اللقاءات مع الشباب تأمّلنا معًا في فصلين من إنجيل متّى ٢٤ و٢٥. وأردتُ من ذلك أن أرى ما الرجاء الإسكاتولوجي الموجود في فكر وقلب الشباب المؤمنين حاليًا؟ لقد كان هناك تشوّش رهيب، مع مشاعر خوف مع خلطٍ بين رجاء الكنيسة وبين ما تتركه في أذهاننا الأفلام السينمائيّة ومشاهد الرعب الرؤيويّة حول العالم. كذلك الخلط بين ما في الأناجيل من صيغة رؤيويّة وبين ما قصده سفر الرؤيا. والخلط بين ما هو رؤيويّ وما هو نبويّ. وبين ما قد حدث فعلًا في هذه النصوص وبين ما هو تحذير لحث المؤمنين على التمسّك بالرجاء في جميع أزمنة الشدّة والضيق والاضطهاد.
نحن بحاجة إلى إعادة اكتشاف الإسكاتولوجيا كميزة لا يمكن فصلها عن الإيمان المسيحيّ. كلّ ذلك على قاعدة تربط المتسامي بالمستقبل. حتّى وإن كانت هذه الصيغة قد تسبِّب سوء فهم، حتّى إن كان لا يمكن تطبيقها إلاّ بمعناها المحدود.
إنّ الإيمان المؤسّس على الوعد الكتابّي يجعل العالم مفهومًا كتاريخ. هنا تبرز مساهمة الإنسان في دورة التاريخ. وفقًا للكتاب المقدّس، العالم عالمٌ تاريخيّ، وهو موجود بفضل وعود الله، وهكذا يتمّ التزام الإنسان ومسؤوليّته في مجرى التاريخ. الرجاء هو بالتحديد ما لم يأتِ بعد، ما لم يوجد بعد. هذا هو السبب في أنّ الكنيسة لا تستطيع تحقيق الوعود الإسكاتولوجيّة حتّى على المستوى الروحيّ. فالمستقبل المرجوّ لا يزال قيد الانتظار. فهو قيد التحقيق. والمسيحيّون هم العمّال المعاونون لملكوت العدل والسلام الموعود به. لكي يتحقّق ذلك، يجب أن يصاحب أرثوذكسيّةَ (استقامة) الإيمان نوعٌ من الأرثوبراكسيس (استقامة الأعمال)، أعمال موجّهة نحو نهاية الأزمنة. فالإيمان الإسكاتولوجيّ مرتبطٌ بالمجهود الأرضيّ ولا يستثني أحدهما الآخر.
لا يمحو الإيمان تساؤلات الإنسان المنفتحة نحو المستقبل. فالإيمان لا يمحو موقف الإنسان كموقف تساؤل بل يجعله أكثر عمقًا. فإنّ أولويّة الرجاء تُبقي التساؤل البشريّ مفتوحًا. وإنّ التساؤل في حدّ ذاته لا يعني تغييرًا آليًّا للعالم، فما أن يرتبط السؤال بالوعد، يمكن فهم العالم على أنّه متّجه نحو المستقبل من حيث إنّ له تاريخًا.
إنّ محاولة قراءة وفهم كلّ اللاَّهوت كأنثروبولوجيا مكسب عظيم لكلّ مجهود تمّ في اللاّهوت. ومع ذلك، يخاطر هذا الجانب الأنثروبولوجيّ للاّهوت بأن يصبح دون عالم وبدون تاريخ، إن لم يُفهَم على أنّه في الأساس إسكاتولوجيّ. ذلك لأنّه فقطّ بواسطة الإسكاتولوجيا يحقِّق الرجاء عالمًا متأرِّخًا. فقطّ بواسطة عالم مفهوم كتاريخ نستطيع فهم المعنى الأساسيّ والدائم للكائن البشريّ وفعله. إنّ مركزيّة الإنسان المسيحيّة تفهم الحريّة كتاريخ. ويتكشّف اللاَّهوت كإسكاتولوجيا، وتصبح قيمة الإيمان في المقام الأوّل كرجاء متضامِن.
وكما يرى پيترسون، إنّ الإسكاتولوجيا هي سمة الكنيسة. فهي التي تمثِّل المستقبل الأخيريّ في الزمن الحاضر (الآن). فوصول العالم إلى ملئه هو الحدث النهائيّ لمدينة الله، أورشليم السماويّة. ودور الكنيسة هو مقاومة كلِّ سلطة سياسيّة تعتبر نفسها المرحلة الأخيرة للتطوّر، وأنّها نهاية التاريخ.
فلا تستطيع أيّ حالة حياتيّة أو مجتمع أن يعتبر نفسه أنّه وصلَ إلى تكوينه الأخير، بما أنّ المجيء الثاني للمسيح لم يتحقّق بعد. على الكنيسة أن تشهد دائمًا على الحضور الإسكاتولوجي في العالم “الآن” بواسطة الليتورجيا وأسرار الكنيسة. ففي غياب الرجاء والبؤس والحروب والفقر والأمراض، تشهد الكنيسة لرجائها الإسكاتولوجيّ بأنّا تعمل على مقاومة ملكوت الشرّ لإحلال مملكة العدل والسلام، كي يكون المسيح وحدَه هو السيّد والربّ، حتّى يصل تاريخ الخلاص إلى تمامه.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب نقدي: اللاهوت السياسي، هل من روحانية سياسية؟
تعريب كتاب جوستافو جوتييرث: لاهوت التحرير، التاريخ والسياسة والخلاص
تعريب كتاب ألبرت نوﻻن الدومنيكاني: يسوع قبل المسيحية
تعريب أدبي لمجموعة أشعار إرنستو كاردينال: مزامير سياسية
تعريب كتاب البابا فرانسيس: أسرار الكنيسة ومواهب الروح القدس