إنَّ الكتاب المقدَّس هو أساس كلِّ مقال لاهوتيّ. فبما أنَّ المسيح هو محور إيماننا، وأساسُه، بات لا يوجد أيّ لاهوت جاد خارجاً عنه. وبالتَّالي، هناك ضرورة، لابدَّ من الانطلاق منها دائماً، هي الوحي الكتابي. والانطلاق من الوحي الكتابي هو من أجل الوصول إلى يسوعَ التَّاريخِ ومسيحِ الإيمانِ كنقطة ارتكاز وانطلاق ووصولٍ إلى أيّ علم لاهوت.
أن تكون مُرسَلاً، يفترض أساساً وجود مُرسِلٍ كضرورة حتميَّة. فكلمة “مُرسَل” في اللُّغة العربيَّة هي اسم مفعول، من الفعل أرسَلَ، وحتَّى الاسم “رَسولٌ” دائماً ما يعطي معنى شخص لم يأتِ من عند ذاته بل شخص أرسَله آخرُ، الله أو ملك أو حاكم. وكثيراً ما نلاحظ وروده مضافاً، وهو صاحب فعل الإرسال، مثلاً رسول الله أو رسول الملك أو رسول المسيح.
هذا ما يجب الإشارة إليه قبل الولوج إلى استخدام النّصوص. وفي استخدامنا للنّصوص الكتابيَّة نشير إلى أنَّه ببساطة ستكون القراءة تاريخيَّة، باعتبار أنَّها حدثت في الماضي، ومِن ثمَّ نعمل على تأوينها في زماننا الحاضر، وموضعتها في مكاننا الَّذي نعيش فيه. آخذين بعين الاعتبار الأبعادَ الثَّقافيَّة الَّتي تمَّت في سياقها هذه الأحداث ومدى قُربِها، لحسن الحظّ، من ثقافتنا الشَّرقيَّة كشرقيّين، وكمتثقفين بالثقافة العربيَّة. وسنتناول معاً نصوصاً من العهد القديم والجديد لكي نتعرَّف معاً إلى معنى الإرسال وهدفه ومن هو المرسَل والمُرسِل وأيضا المُرسل إليه.
“وأما موسى، فكان يرعى غنم يثرون حميه، كاهن مديان، فساق الغنم إلى وراء البرية وجاء إلى جبل الله حوريب. وظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة. فنظر، وإذا العليقة تتوقد بالنار والعليقة لم تكن تحترق. فقال موسى أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم: لماذا لا تحترق العليقة. فلما رأي الرب أنه مال لينظر، ناداه الله من وسط العليقة وقال: موسى موسى، فقال: هانذا، فقال: لا تقترب إلى ههنا اخلع حذائك من رجليك لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة. ثم قال: أنا إله أبيك، إله إبراهيم، وإله إسحق، وإله يعقوب. فغطى موسى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله. فقال الرب: إني قد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر، وسمعت صراخهم من أجل مسخّريهم، إني علمت أوجاعهم فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين، وأصعدهم من تلك الأرض إلى أرض جيدة وواسعة، إلى أرض تفيض لبنا وعسلا، إلى مكان الكنعانيين والحثيين والأموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين. والآن، هوذا صراخ بني إسرائيل قد أتى إليّ، ورأيت أيضا الضيقة التي يضايقهم بها المصريون. فالآن، هلم فأرسلك إلى فرعون وتُخرج شعبي بني إسرائيل من مصر. فقال موسى لله: من أنا حتى أذهب إلى فرعون وحتى أُخرج بني إسرائيل من مصر؟ فقال: إني أكون معك، وهذه تكون لك العلامة، أني أرسلتك حينما تخرج الشعب من مصر تعبدون الله على هذا الجبل. فقال موسى لله: ها أنا آتي إلى بني إسرائيل وأقول لهم إله آبائكم أرسلني إليكم. فإذا قالوا لي ما اسمه، فماذا أقول لهم؟ فقال الله لموسى: أهيه الذي أهيه، وقال: هكذا تقول لبني إسرائيل: أهيه أرسلني إليكم. وقال الله أيضا لموسى: هكذا تقول لبني إسرائيل: يهوه، إله آبائكم، إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب، أرسلني إليكم. هذا اسمي إلى الأبد، وهذا ذكري إلى دور فدور.
“(سفر الخروج، اﻷصحاح الثالث، 1-15)
هذا النَّص هو بداية إعلان عن حدثٍ مؤسِّس. هذا الحدث، سيُبنَى عليه إيمانُ شعب الكتاب المقدَّس، ويظلّ يُلقي بظلاله على الإيمان البيبلي (الكتابي) بأشمله.
في هذا النَّص نجد أربعة عناصر:
المُرسِل: يهوه
المُرسَل: موسى
الرسالة: معرفة يهوه والتَّحرّر
المُرسَل إليهم: شعب بني إسرائيل
وتجدر الإشارة إلى أنَّ الرِّسالة في هذا النَّص الافتتاحي ليست خطاباً نظريَّاً أو توجيهاتٍ أخلاقيَّةً، بل هي رسالة تحريض، رسالة تهدُف إلى التَّرجمة والتَّجسُّد في الواقع: اذهبْ… أَخرِجْ…، هي رسالة تحرير، تحرير شعبٍ من خلال أعمالٍ ملموسة في وَسْط الجماعة، وتدخُّلٍ في التَّاريخ للحصول على التَّحرّر الآن؛ في آنيَّة تلك اللَّحظة التَّاريخيَّة، بظروفها الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة والسِّياسيَّة.
يهوه مُرسِل
يتراءى يهوه في الصَّحراء لموسى، بينما يعمل راعياً للأغنام. إنَّه من الأهميَّة بمكان أن نركِّز، في قراءتنا لهذا النَّص، على الأماكن الَّتي تدور فيها الأحداث، المشهد هنا يتمُّ في الصَّحراء. الصحراء هي مكان الخوف وعدم الاستقرار، مكان لقاء الله، ولقاء الشَّيطان أيضاً. مكان التناقضات: يلتقي فيها المتعبِّدون والخارجون عن القانون، الأقوياء والضّعفاء الهاربون من البشر.
موسى هنا في الصَّحراء، موقفه موقف الضَّعيف، الخارج عن القانون، الهارب من البشر ومن أيدي العدالة. لقد ارتكب جريمة قتل للتَّو، تحول على إثرها من رجلٍ ذي سُلطان وسطوة تهرب النَّاس منه، إلى رجل ضعيف يهرب هو منهم. إذن، موسى الآن هو في أضعف موقف له على الإطلاق… في الصَّحراء، النَّقيض الأوضح لقصر فرعون. ومن هنا، يتبادر إلى الذِّهن تساؤل مهمّ، لماذا يظهر يهوه لموسى الآن وهنا، بعد الهروب وفي الصَّحراء؟ أمَا كان من الأفضل أن يدعوه عندما كان في موقف قوَّة، في قصر فرعون؟ أليس في ذلك نتائج أضمن وأسهل وأسرع؟ تلك الأسئلة منطقيَّة جدَّاً، إضافة إلى ذلك، تاريخنا البشري يثبت ذلك وهو أنَّ ضمان تحقيق الأهداف يتمّ من خلال مواقف وأوضاع القوَّة.
بلا شكٍّ، إنَّنا نصطدم بمنطقٍ آخر، هو منطق يهوه، وهو يختلف تمام الاختلاف عن منطِقنا.
إذا ابتغينا معرفة منطقه، ينبغي لنا، أوَّلاً، خلع نعلينا. أن نتخلَّى عن أحكامنا المسبَّقة، ونستعدّ لمعرفة ما يأخذ أنفاسنا عجباً ودهشةً. يهوه هو “الإله”، وهذا الإله هو قويّ، في ذاته، ولا يحتاج، بالتَّالي إلى قوَّة أخرى، حتَّى إن كانت قوَّة دولة عظمى.
فلنخلع أحذيتنا، كلَّ أفكارنا الأرضيَّة، ومنطقنا البشريَّ. الحذاء في ثقافتنا الشرقيَّة رمز للقذارة والاحتقار، وهو أيضاً يحمينا. يهوه يريد منَّا ألا نعتمد على أيَّة حماية أخرى إلاَّه. يهوه يقوم بذاته بإرسال موسى وهو في موقف ضعف ليظهِر قدرَته في تحرير الضّعفاء دون الاعتماد على أحد. موسى هنا أمام تجرِبة جديدة وغريبة في آنٍ، فهو في هذه المرّة لا يذهب إلى الشَّعب ليحرِّرهم انطلاقا من ذاته أو إرادته الشَّخصيَّة، بل انطلاقاً من يهوه المُرسِل. حينما نظنَّ أنَّنا نحن الَّذين نقوم بالعمل نقع في الخطر الَّذي سقط فيه موسى، حينما ذهب دون “إرسال” من يهوه، ارتكب جريمة قتل، وأصبح في حاجة إلى مَن يُنقذه بدلاً من أن يكون مُنقِذاً.
يهوه مُرسَلٌ
في هذا النَّصّ نرى أنَّ يهوه هو المُرسِل الَّذي يدعو إنساناً ما في ضعفه، يُرسل كي يُحرِّر أخوته. ولكنَّنا أيضاً نجد أمرأً مهماً وهو أنَّ يهوه ليس إلهاً ساكناً، كآلِهة الأمم، ولكِنَّه إله، كما يبيّن النَّص، “يرى” مذلَّة شعبه، “يسمع” صراخهم، “ينزل” لينقِذَهم. يهوه هنا هو رَسول، يقوم بفعل النّزول، إرسال في تاريخٍ وأرض معيَّنَينِ لإنقاذ وتحرير شعبٍ مقهورٍ تحت حكم مستَبدّ. تعجز أيَّة قوَّة على تحريره. يهوه هو الرِّسالة الَّتي ينبغي لشعب إسرائيل معرفتها، يأتي إليهم لينقذهم. الرِّسالة هنا تصبح الرَّسول, يهوه يُرسلُ ذاته من أجل تحريرهم من الظلم.
رَسولُ يهوه
«فالآنَ اذهَبْ». كما رأينا سابقاً، يهوه هو الَّذي يُرسِل. ذلك الإرسال يفترض تبريراً دائماً لتصرُّفات وأعمال مرسلي يهوه. «ها أنا ذاهب إلى بني إسرائيل، فأقول لهم: إله آبائكم أرسلني إليكم. فإن قالوا لي: ما اسمه، فماذا أقول لهم؟» هذا العمل الّذي يقوم به مرسل يهوه يقابله من ناحية أخرى من قبل الشعب سؤال جوهري: مَن هو مُرسلك، من هو إلهك؟ في الإجابة على هذا السؤال يكمن المحكّ الأساسي لاختبار أمانة وصدق المرسَل. فكيف يكون هناك مُرسلاً لا يَعرف مُرسِلَه معرفةً عميقة. هذا السؤال يذكِّرنا بسؤال يسوع إلى تلاميذه: “مَن أنا في قولكم أنتم؟” (مت 16/ 13-16). دون إجابة بطرس لا نستطيع أن نكون مرسَلي الله. جواب بطرس: “أنت المسيح ابن الله الحيّ“. ويجاوبه يسوع مطوِّباً إيَّاه مُبيّناً أن أباه هو الَّذي كشف له عن ذلك. هذا يكشف لنا عن أهمّيَّة العَلاقة الشَّخصيَّة بين المُرسِل والمُرسَل، وتُظهر العَلاقة الجدليَّة في المعرفة، فالإنسان عليه أن يقيم علاقةً مع الله لمعرفته، وبدون تلك العَلاقة لا يمكن اعتبار هذا الشَّخص مرسَلَ يهوه؛ وفي نفس الوقت بسعي الإنسان هذا وانفتاحه على الله يقوم الله ذاته بالكشف عن نفسه للإنسان. من هنا نفهم أنَّ العمل الَّذي يقوم به المُرسَل هو أساساً عمل يهوه، يُشرك فيه بمجَّانيَّة، وبدون استحقاق الإنسان، المُرسَل. فالمُرسَل يتمِّم عمل يهوه.
في نصِّ الخروج هذا، يجيب الله موسى على سؤاله، بخصوص اسمه بجملة صعبة الفهم: “أنا هو مَن هو“. الله لا يخبره باسمه، ولكن يخبره بشيء يعني فهذا الرَّدّ “أنا الكائن“. على الإنسان أن يسعى إلى أن يعرف من هوَ الله. تلك المعرفة لا تتمّ من خلال لقاء واحد، على الإنسان أن يكتشف الله في لقاءه اليومي، أوَّلاً في حدث الظّهور أو اللقاء الأول الَّذي فيه يكتشف المُرسل أنَّه لأوَّل مرَّة يُقيم حواراً صادقاً مع يهوه، وأنَّ يهوه يُكلِّفه برسالةٍ. وثانياً في اللقاء اليومي مع الله في الصَّلاة، وفي الأشخاص الَّذين كلَّفهم يهوه برسالة لهم. فيهم تتم معرفة يهوه، ومن خلالهم نتعرَّف إلى وجهه، ونتلمَّس مدى حبِّه لخليقته، ونعرف معنى رسالتنا، وصدقها.
المُرسَل إليه
مَن هم هؤلاء الَّذين يُرسَل إليهم المُرسَلون؟ أوَّل إجابة تتبادر إلى الذِّهن هي: “هم أشخاص في بلدٍ بَعيدة، لهم ثقافة ولغة مختلفتان”. هذه الإجابة ليست خاطئة ولكِن مبدأيَّاً، هذا تماماً عكس ما يطرحه نصّ سفر الخروج، فالله يطلب من موسى أن يذهب إلى بني إسرائيل، شعبه، هذا من ناحية. ولكن من ناحية أخرى القريب هو في الوقت ذاته غريب عنّي، هو آخر. وهنا الرِّسالة، أن أخرجَ من “ذاتي” نحو الآخر. أن أنقل إليه خبرتي النَّابِعة من العَلاقة والتأمُّل والخبرة مع يهوه. هي أوَّلاً بعد أن أكون قد اختبرتُ الله في واقعي وتاريخي وظروفي أنا، أذهب إلى الآخر الَّذي يعيش خصوصاً في نفس واقعي ومكاني، وفي ظروفنا المشتركة إلى جانب ظروفه الشَّخصيَّة، من أجل نقل هذه الخبرة له. وهي أنَّ الله الَّذي أنقذنا من العبوديَّةِ في القِدم استطاع أن يُنقِذني الآن. بأنَّه أظهر عدم رضاه على ما يدور في العالم من ظلم وفقر، وأنَّ وجود هذه الأنواع من الاستبدادات السياسيَّة والاقتصاديَّة والتَّفاوت الطبقي هي ضدّ مخطَّطه لخلاص البشريَّة.
في هذا الكلام، لا يعني أن المرسل هو شخص حصل على التَّحرّر الكامل، بل هو شخص، على غرار موسى، في موقف ضعف. ولكن بلقاءه يهوه ينهض من غفوته ليعرف الله بطريقة أفضل ومن ثمَّة يسعى من خلال مسيرة طويلة إلى تغيير وتحرير نفسه وأخوته المعاصرين من الفراعِنة الجدد على كافَّة الأصعِدة ثقافيَّاً واجتماعيَّاً وبالتَّالي سياسيّاً. هذا هو الملكوت الَّذي جاء ينادي به يسوع، عالم حالي لا مكان فيه للعبوديَّة والظلم والفقر.
كيف تقيّم هذا المقال؟
← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←
المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء
كن أوّل من يقيّم هذا المقال
من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا
دعنا نعمل على تحسين ذلك
أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟
صدر للكاتب:
كتاب نقدي: اللاهوت السياسي، هل من روحانية سياسية؟
تعريب كتاب جوستافو جوتييرث: لاهوت التحرير، التاريخ والسياسة والخلاص
تعريب كتاب ألبرت نوﻻن الدومنيكاني: يسوع قبل المسيحية
تعريب أدبي لمجموعة أشعار إرنستو كاردينال: مزامير سياسية
تعريب كتاب البابا فرانسيس: أسرار الكنيسة ومواهب الروح القدس