شيء من الخوف (١٩٦٩)

(لاهوت الدهاشنة)

فيلم «» (١٩٦٩) مأخوذ عن قصّة للكاتب “”. تدور أحداث الفيلم في عقد الستينات على ما يبدو، فالعقود نادرًا ما تختلف في حياة القرى المصريّة. أمّا المكان فهو قرية الدهاشنة، قرية لا وجود لها، ويريد المخرج التركيز على أنّ هذه القرية لا وجود لها، أو بالمعنى الأدقّ، لا يريد الكاتب حصر هذه القرية في مكان جغرافيّ بعينه، ولا في زمان بعينه. فالزمان والمكان حيث يسود القهر والظلم والانتقام والعنف وسط شعب خانع صامت خائف.

وهذا الشعب يثير الدهشة، وهذا ما يبدو من اختيار اسم القرية: الدهاشنة.

سنتعرّض لاحقًا لكلمات أَغَانٍ الشاعر الصعيديّ “ّ”، فهي تتداخل مع أحداث الفيلم، ومع موسيقى “بليغ حمدي”، تتداخل مع قصّة الفيلم كنسيج سجّادة فارسيّة لا يمكن فصل أحد خيوطها وإلا أصاب الخلل الفيلم برمّته.

ملكوت الشرّ

١. عتريس الجد
يمثِّل ملكوتَ الشرّ شخصيّةُ عتريس الجدّ. يفرض هذا الشخص سطوته على القرية، ويحصل من أهلها على الإتاوات دون تقديم أيّ شيء مقابلها، فهي إتاوات لتجنّب شرّه. حتّى الموت، هيهات أن يتجنّب الإنسان شرَّه، فأقرب الأشخاص للمَيّت عليه أن يدفع الدَين، وإلا لاقى المصير نفسه.

النظر إلى شخصيّة عتريس يطرح سؤال قديمًا: ما أصل الشرّ؟ هل الشر أمر يُفطَر عليه الإنسان أم مُكتَسَب؟
في حالة عتريس الجد نشعر وكأنّ الشر ليس مكتسبًا؛ إلّا أنّنا حينما نرى عتريس الحفيد في طفولته بل وبداية شبابه نرى أنّ الشرّ مُكتَسَب.

٢. الدهاشنة

«آدي الدهاشنة، وادي انت، وادي عتريس، بتدور فيهم على مين؟ شيء من الخوف ما يأذيش»

ترد هذه الجملة على لسان عتريس الجدّ. فعتريس أوّلًا ليس شخصًا من قرية أخرى بل هو من الدهاشنة نفسها. لذا أظنّ أنّ أوّل أتباع عتريس في مملكة الشرّ هم أبناء الدهاشنة أنفسهم، فهم الذين بخنوعهم جعلوا عتريسًا يتمادى في عنفه وقهره وظلمه. مَن يريد التمرّد على الظلم؟ إن أردتَ التمرّد على الظلم، فها هم الدهاشنة، وهام هم المقهورون الخانعون الصامتون المدجّنون.
ستصبحَ أنتَ مَن يرفضك المقهورون ولن يساندوك، فشيئ من الخوف مايأذيش.. شيئ من الخوف يجعل الهشَّ ديكتاتورًا يأمر ويقتل مَن يشاء.

مملكة الخير

١. قاتِل عتريس الجدّ؟
يقبض رجال عتريس الجدّ على رجل من الدهاشنة، ويعذبونه ويذلونه، فيتدخّل أخو هذا الرجل ليقتل الحفيد، إلّا أنّ الجد هو الذي يموت بعد انتزاعه تعهّدًا من حفيده بالثأر له.

يطرح هذا المشهد مسألة النضال ضدّ الظلم: هل يجوز اتّخاد العنف سبيلًا للنضال ضدّ الظالمين؟
بكلمات أخرى، هل يمكن استخدام العنف لإنهاء العنف ذاته؟

٢. فؤادة
فؤادة دورها معقّد. لن أستطيع أن أختصر ما قامت به في سطور، عليّ أن أفكر أكثر وأكتب أكثر.
مبدأيًّا، فؤادة، الأنثى، كسرت تابوهات المجتمع وكشفت خزي المجتمع الذكوريّ الذي يمارس ذكوريّته مطيّة يخفي فيها رعبه من النساء. أولئك النساء اللائي بصوتهنّ وإرادتهنّ يستطعن أن يخلقنَ عالمًا أفضل، وأن يصرخن صرخة قويّة قاسية صارمة جريئة تقضّ مضاجع أعتى الديكتاتوريين الذكور، وأن يفضحن تقاعس ذكوريّة المجتمع العربيّ الهشة. فؤادة المرأة التي تعرف كيف يتحوّل الحبّ في قلبها إلى صرخة تحرّريّة للخلاص الشامل للمدينة (الدولة) وليس الخنوع الذي يرضى بالخلاص الفرديّ.

٣. الشيخ إبراهيم (المؤسَّسة الدينيّة)
أوّل كلمة “لا” في الفيلم خرجت من فم الشيخ إبراهيم! ونجح الشيخ إبراهيم في قول الحق من قبل أن تقضي يد الغدر على حياة ابنه.
على هؤلاء الشيوخ إذًا أن يختفوا من الوجود، فهم خطر على وجود أي حاكم ظالم.

مش خايفة… محبّش يدّ حد تتمدّ عليّ

في الدقيقة الحادية عشرة مشهد يصوّر أوّل لقاء بين عتريس الجدّ والطفلة فؤادة التي لم تهرب كبقيّة الأطفال. تقول الطفلة إنّها ليست خائفة وتفسّر بعدها حين حاول لمسها على أنّه ليس خوفًا، بل لأنّها ترفض أن يلمسها أحد. يستحضر ذلك إلى ظاهرة الضرب في المدارس. يبدو أنّ هناك عقد غير معلَن بين النظم الديكتاتوريّة ونظامها التعليميّ، فيبدأ تعليم القهر مبَكِّرًا. فضرب التلاميذ على أياديهم في المدارس صورة مبكِّرة بل وتمهيد لضرب مخبر النظام الشموليّ على “قفا” المواطن الذي تسوّل له نفسه أن يتصرّف باعتباره شخصًا حرًّا ذي كرامة؛ بل هي صورة تمهّد وتسهّل عمل “فرج”.

«لا تحسب أنك تخيفني بهذا التهديد؛ فأنت لا تستطيع أن تقتلني، وإذا قتلتني فإنّي لن أموت… أنا أملٌ في نفسك… فكرة في ضميرك… الزواج منّي حلم طفولتك، وصباك، وشبابك. إذا قتلتني فسأظلّ في نفسك أملًا وفكرةً وحلمًا… وسيظلّ الحلم حلمًا لم يتحقّق».‎‎

عرفت فؤادة أنّ ليس من حقّ أيّ إنسانٍ أنّ يمسّ جسدها، اعتداءً، ليس ذلك فحسب. فكرامة جسدها وكرامتها باعتبارها إنسانًا جعلتها تدرك تمام الإدراك سرّ قوتها. ففؤادة فكرة، والفكرة لا تموت، بل كما قال المقنّع في فيلم v for Vandetta الأفكار مضادّة للرصاص. الحقّ فكرة لا تموت، وإذا قتل الطاغية البشرَ فسيظلّ حلمه دون التحقّق، وسيزداد انهزامه، وتظلّ أحلامه من دون تحقّق.

حقوق الإنسان وحقّ الله

ما دوافع الشيخ إبراهيم للثورة على الطاغية؟
يمكن اعتبار الشيخ إبراهيم في الرواية على أنّه يمثل “الدين”. وأوّل كلمة “لا” في الفيلم خرجت من فم الشيخ إبراهيم! ونجح الشيخ إبراهيم في قول الحقّ من قبل أن تقضي يد الغدر على حياة ابنه. على هؤلاء الشيوخ إذًا أن يختفوا من الوجود، فهم خطرٌ على وجود أيّ حاكم ظالم. ولكن، هل كانت الثورة التي قادها الشيخ ثورةً على انتهاك حقوق الإنسان؟ أمّ أنّها ثورة من أجل انتهاك آخر؟

في الفيلم كما في الرواية يتكلم الشيخ على أنّ الشعب صبرَ على انتهاك حقوقه، إلّا أنّه لا يمكن أن يصمت عن انتهاك “حقّ الله”.

يمكن من الرواية ومن الفيلم إدراك رمزيّة باعتبارها تلميحًا لحكم الحاكم على الدولة، والذي يرفضه الشعب، ممّا يجعل حكمه باطلًا. فإرادة الشعب ورضاه هما أساس العقد وأساس صحّته. إلّا أنّ رمزيّة بطلان زواج فؤادة باعتباره زواجًا باطلًا مرتبطًا بحقّ الله يثير مسألة غايةً في الأهمّية. فكلام الشيخ: “صبرنا على انتهاكه حقوقنا، أما انتهاكه لشرع الله فلا يمكن السكوت” يثير مسألة حقوق الإنسان وحقّ الله. الوجه الآخر لبعض المؤسسات الدينيّة التي لا تفتح فاها إلّا حينما يُنتهك “حقّ الله” وليس عندما يُنتهك “حقّ الإنسان”. وكأنّ هناك تعارض أو فرق بين الاثنين.

يأتي التعارض أو الاختلاف، أو دونيّة حقوق الإنسان أمام حقّ الله من النظرة للدين ذاته.
فالنظرة السائدة في الشرق للدين أنّه دين “ذو مركزيّة إلهيّة”()، مقابل توجه الدين السائد في الغرب وبخاصّة بدءًا من القرن الثامن عشر باعتبار الدين ذا “مركزيّة بشريّة” ()

عالم الحداثة اليوم يظهر بجرأة أن دينًا لا يحترم الإنسان وحقوقه لن يكون له مستقبٌل. تلك هي النزعة الإنسانيّة. فالمسيحيّة في جوهرها دين ذو نزعة إنسانيّة humanist فإيمان المسيحيّة بالتجسّد جعل كرامة حقوق الإنسان من كرامة حقّ الله. ففي نهاية الأمر، الكلمة صار إنسانًا، وعانى من انتهاك حقوق الإنسان، ومن الطغيان، ووقع عليه حكم ظالم بالإعدام.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

جون جابريل
راهب في معهد الدراسات الشرقية للآباء الدومنيكان  [ + مقالات ]

صدر للكاتب:
كتاب نقدي: ، هل من روحانية سياسية؟
تعريب كتاب جوستافو جوتييرث: ، التاريخ والسياسة والخلاص
تعريب كتاب ألبرت نوﻻن الدومنيكاني: يسوع قبل المسيحية
تعريب أدبي لمجموعة أشعار إرنستو كاردينال: مزامير سياسية
تعريب كتاب ال: ومواهب الروح القدس