أثار الحادث الإجرامي الذي راح ضحيته القمص ، كاهن كنيسة السيدة العذراء ومار بولس في كرموز بالإسكندرية، ردود فعل تراوحت بين التهوين من شأن الحادث، باعتباره حادثا منعزلًا ارتكبه مسن وصفته البيانات الرسمية بأنه "مهتز نفسيًا" و"مختل دينيًا"، وبين ردود فعل شبه رسمية بالغت في تصوير الحادث باعتباره مؤامرة تستهدف مصر وأمنها. واتفقت البيانات التي أصدرتها هيئات دينية وسياسية ومدنية على إدانة الحادث الذي وصف بأنه "إجرامي" وكررت التأكيدات المعهودة في مثل هذه الحوادث بضرورة التضامن والحفاظ على أواصر المودة بين المصريين.

صحيح، أن الحادث قد يكون حادثا منعزلًا ارتكبه شخص ليست لديه أي ارتباطات تنظيمية أو تقف وراءه جهات منظمة، لكن هذا لا يعني أنه حادث بلا دوافع، وأنه يتعين على جهات التحقيق أن تتعرف على هذه الدوافع، وأن تحيل النتائج لهيئات يفترض أنها تتعامل مع مثل هذه الدوافع، خصوصا إذا ما كانت مرتبطة بمفاهيم خاطئة، لكنها مع الأسف سائدة، بخصوص الموقف من المخالفين في العقيدة. أيضًا قد تكون هناك دوافع أخرى يجب أيضا التعامل معها وتوضيحها للرأي العام لكسبه في المعركة ضد التعصب الديني والعمل على تصحيح المفاهيم الخاطئة التي راجت مع صعود تفسيرات متشددة للإسلام.

هناك من يميل إلى تصنيف مثل هذه الحوادث في سياق تصور عام عن وجود مؤامرة دولية كبرى تستهدف مصر، وتلقى المسؤولية بشكل تلقائي على مخططات لقوى معادية لمصر تستهدف استقرارها وأمنها وتسعى لتفتيتها، ويستخدم هذا الرأي عادة كصرخة تحذير تستهدف تأكيد معاني الوحدة الوطنية واستنهاضها في مواجهة هذه المؤامرات.

مشكلة هذا الطرح أنه يساعد على التنصل من مسؤوليتنا عن مثل هذه وإلقاء المسؤولية على قوى غربية، أو قوى إقليمية معادية، تسعى لإحداث اقتتال طائفي، أو إحداث حالة من عدم الاستقرار. لكن الأمر الثابت هو أن هذه المحاولات الخارجية لإثارة الفُرْقَة الدينية بين المصريين يكون مآلها الفشل عادة، إذ يستنهض التحدي الخارجي عوامل التماسك الوطني وينحي جانبا الانقسامات الدينية، ولا يعني هذا عدم التصدي وبحزم لمثل هذه المؤامرات إن وجدت، لكن ثمة خطورة في استدعاء تحدي خارجي غير حقيقي في مواجهة توتر طائفي له أسبابه الداخلية أو المحلية.

من الأمور المتفق عليها بين كثير من المراقبين والدارسين لهذا الملف منذ أحداث الزاوية الحمراء في عام 1981، أن العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين بشكل عام، والمسيحيين على وجه التحديد تواجه أزمة على مستويين: الأول، هو مستوى العلاقة بين الدولة والكنيسة والتي بدأت ملامحها تتضح مع أحداث الخانكة في عام 1972، وأن هذا المستوى كان له تأثير بالغ في المستوى الثاني المتعلق بالعلاقة المجتمعية بين المسلمين والمسيحيين، لاسيما مع هيمنة التفسيرات والرؤى الوهابية المتشددة للدين وصعود تيارات .

والأسباب التي أدت إلى أزمة العلاقة بين المسلمين والمسيحيين على المستوى المجتمعي عديدة، والمسؤولية عن هذا الوضع مشتركة، وعليه، فإن الخروج من هذا الوضع يتطلب حوارًا شاملًا وتحركا من قبل جميع الأطراف: الدولة بمؤسساتها، المؤسستان الدينيتان -الأزهر والكنيسة-، والنخب الثقافية، وقادة الرأي. وهذه نقطة تحتاج تناولا مفصلا.

لعل النقطة التي يجب الالتفات إليها هنا، هي أن ملف الأزمة الطائفية جرى تسييسه والتلاعب به لاعتبارات سياسية، وسبب توترا في العلاقة بين الدولة والكنيسة، ومعالجة بعض النقاط التي وردت في تقرير اللجنة التي شكلها مجلس الشعب برئاسة الدكتور جمال العطيفي بعد أحداث الخانكة 1972، والمعروف بتقرير العطفي، والذي أكد كثيرا من مطالب النخبة الاجتماعية المسيحية منذ المؤتمر القبطي الأول لإعادة صياغة العلاقة بين الطوائف الاجتماعية وبعضها، وبينها وبين الدولة، على قاعدة المواطنة الكاملة.

صحيح أن العلاقة بين الدولة والكنيسة تحسنت بعد ثورة 30 يونيو والإطاحة بحكم الإخوان، إلا أن هذا التحسن قد وضع المسيحيين والكنيسة في مصر في موقف أكثر صعوبة وتعقيدًا، ويعرضهم لدفع ثمن تغيير طالبت به قوى اجتماعية كثيرة في المجتمع، خصوصا مع إصرار جماعة المحظورة وحلفائها على تصوير أحداث 30 يونيو وما تلاها على أنها انقلاب على حكمهم برعاية الكنيسة، الأمر الذي يشير إلى احتمال توظيف هذا الملف في الضغط على النظام في مصر من قبل بعض قوى المعارضة. وبدلا من التفكير في كيفية التعامل مع هذا المأزق تسعى تلك القوى لاستمراره وتوظيفه على نحو يهدد مقومًا رئيسيًا من المقومات التي تأسست عليها الدولة المدنية الحديثة في مصر.

إن ادعاء الجماعة المحظورة ليس تدليسا وحسب، وإنما لعبا بنيران وإشعال حرائق يصعب احتوائها، ولا يصلح كورقة تستخدم في الصراع على السلطة. ويجب اليقظة والتصدي بحزم لأي محاولة لاستغلال هذه الورقة والمضي قدمها في ترسيخ مبدأ المواطنة على مستوى التشريعات وعلى مستوى الممارسات، ولا بد من توسيع دوائر المشاركة السياسية المتنوعة أمام المصريين، بحيث تصبح اختياراتهم السياسية تتسق مع الميول والتوجهات المصالح، ولا بد من التصدي للتصور الذي روجه الإخوان وحلفائهم. فانتفاضة الشعب المصري ضد حكم الإخوان وسوء إدارتهم والتصدي لمشروعهم ضمت المصريين جميعا من كل الطوائف والمذاهب والتيارات السياسية.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي حسب تقييمات من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

أشرف راضي

أشرف راضي

[ + مقالات ]