فتنة ناعمة، جملة مُعلقة بين الخبر والاتهام، شاشة بلا فرامل، التباس مقصود، دين يُستدعى إلى ساحة السياسة، وهو ليس طرفًا فيها. خلط بين التحليل والتحريض، وبث للريبة باسم المعلومة. مشهد تحريضي في زمن مضطرب، وسؤال مؤجل عن ثمن الكلمة.
إنها الفتنة التي لا تبدأ بخطاب كراهية مباشر، لكنها تتسلل في ثوب معلومة. ألقتها المذيعة هند الضاوي على شاشة فضائية “القاهرة والناس”، قبل أيام حين قالت: إنّ ألف قس إنجيلي أمريكي لتبييض وجه إسرائيل، نظرًا لارتفاع معاداة السامية، والهدف القادم هو أن يكون هناك مائة ألف مسيحي إنجيلي على مستوى العالم لدعم إسرائيل
. هكذا قالت المذيعة عن خطة أمريكية مع قساوسة أمريكان، لكن بثها في السياق المصري أثار استياءً واسعًا ولغطًا بين المواطنين، واعتبروها نشرًا وتعميمًا دينيًا يحمل تهديدًا مباشرًا للسلم الاجتماعي.
المجتمع المصري متنوع دينيًا ومذهبيًا، ويقوم على نسيج حساس من التعايش والمواطنة المشتركة. أي محاولة لربط الانتماء الديني بالولاء السياسي لدولة أو جهة خارجية، حتى لو لم تكن مقصودة، تعمل على زعزعة الثقة بين المواطنين، وإعادة إنتاج ثقافة الريبة والريبة المتبادلة.
وهذا النوع من الخطاب لا يثير الانقسام الفكري فقط، بل يخلق إطارًا لتبرير تمييز أو شكوك حول أفراد أبرياء، مما يهدد الاستقرار الاجتماعي على المستوى اليومي في المدارس، أماكن العمل، وحتى الحياة العامة، حيث يمكن لأي شائعة أو افتراض أن يتضخم بسرعة ويترجم إلى عداء ملموس ضد كل الإنجيليين، بل وضد كل المسيحيين.
خاصة وأن الأمر تم عرضه كما لو كان يعكس موقف المسيحيين الإنجيليين في العالم كله، أو موقف الطائفة الإنجيلية، وهو ضمنيًا يستعدي المأفونين دينيًا على فئة بعينها، ولا يمكننا أبدًا فصل الطرح عن السياق المتربص الذي يلتقط أية ذريعة لينزل العقاب الجماعي بالآخر الديني، وهو ما دفع د. فريدي البياضي النائب البرلماني ورئيس الطائفة الأسبق إلى إصدار بيان توضيحي يناشد فيه وسائل الإعلام توخي الحذر.
والمشكلة ليست في أن مذيعة لم تتوخَّ الحذر، أو لم توفَّق على الهواء، أو أن فريق الإعداد خانته الكياسة السياسية والمهنية والمجتمعية في اختيار موضوع الحلقة. المشكلة أن يتحول عدم التوفيق إلى قنبلة طائفية، تُلقى في قلب مجتمع يُلملم نفسه ليتماسك بعد سنوات من الإنهاك. لا يمكن التعامل مع ما جرى بوصفه رأيًا، إذ إن المذيعة لم تكن تُحلل ولم تكن تُعلِّق. كانت تُطلق خبرًا يلتقطه المأفونون دينيًا معتبرينه اتهامًا جماعيًا، اتهامًا محمولًا على أساس ديني، وفي توقيت إقليمي بالغ الاشتعال.
الفتنة الناعمة، لا تحتاج صراخًا ولا سبًّا ولا دعوة مباشرة للعنف، لأنها تكتفي بالإيحاء، واستخدام وصف ذو صلة بفئة معينة تحيا داخل الوطن، يكفيها جملة مُلتبسة، اتهام بلا اسم مباشر، يُقال ببرود ويُترك لخيال الجمهور أن يُكمله. إنها فتنة بلا دماء في لحظتها الأولى، لكنها تُراكم الشك، وتُفسد الثقة، وتُعيد تعريف المواطن ليس باعتباره فردًا، بل بوصفه “اشتباهًا” محتملًا. والاشتباه لا يحتاج دليلًا، ولا يتحمل مسؤولية، يكفيه ميكروفون مفتوح، وجمهور يتلقى.
وهنا، لا يعود السؤال: هل المعلومة صحيحة أم لا؟ بل: هل يحق أصلًا قولها بهذه الصيغة؟ الإجابة، دستوريًا وقانونيًا، واضحة: طبعًا لا، فالدستور المصري في مادته (53) ينص صراحة على أن: التمييز والحض على الكراهية جريمة
. وفي المادة (64) يقرر الدستور المصري أن حرية الاعتقاد مطلقة
، وهي ليست جملة إنشائية، بل قاعدة حاكمة تمنع ربط الانتماء الديني بأي اتهام سياسي أو أمني جماعي خاصة وأن المذيعة قالت بوضوح أن الهدف القادم إعداد 100 ألف إنجيلي حول العالم لدعم إسرائيل!!
أما المادة (71) من الدستور، ورغم كفالتها لحرية الصحافة والإعلام، فإنها تحظر صراحة استخدام هذه الحرية في التحريض على العنف أو التمييز أو الطعن في أعراض الأفراد، وهو ما ينطبق على بث خطاب يزرع الشك والكراهية بين المواطنين على أساس ديني. وبمعنى أوضح فإن حرية الإعلام لا تحمي الفتنة.
كما أن القانون الجنائي في المادة (176) يجرم التحريض علنيًا، عبر وسيلة من وسائل النشر، وهو ما ينطبق بوضوح على الشاشات الفضائية. أما قانون تنظيم الصحافة والإعلام رقم (180) لسنة 2018، فيحظر في المادة (19) منه بث أو نشر أي محتوى يحض على الكراهية.
إذًا ماذا حدث حين تم بث هذه الجملة، دون تصحيح فوري، أو مساءلة علنية، أو اعتذار واضح؟ الذي حدث ببساطة هو غرس الشك في شركاء الوطن، وإعادة إنتاج فكرة “الطابور الخامس”، وتحميل مواطنين عاديين، لا علاقة لهم بالسياسة ولا بالصراع، وزر صراعات دولية لا يملكون فيها قرارًا. والأخطر أن هذا النوع من الخطاب يتم تقديمه تحت لافتة “الوطنية”، بينما هو في حقيقته ضرب لفكرة المواطنة وإرساء للتصنيف، الذي يؤسس للعقاب الجماعي في أقرب فرصة.
إنه خطاب كاره يقوم على تخويف المواطنين من بعضهم البعض. ويبث الريبة. التي معها لا يصلح اعتذار ولا تبرير لأن الضرر وقع، والكلمة خرجت، والأثر انتشر. والسكوت عن هذا النوع من الخطاب ليس انتصارًا لحرية التعبير. بل هو تواطؤ صامت. والمجاملة في قضايا الفتنة ليست رحمة، بل تفريط. فمن يملك ميكروفونًا، يملك سلاحًا، ومن يطلق اتهامًا دينيًا على الهواء، لا يخطئ فقط في حق المهنة، بل يعبث بعصب المجتمع. جملةً بعد جملة، حتى يأتي يوم نكتشف فيه أن الشاشة التي اعتدناها، كانت هي الشرخ الأوسع في الجدار.
