يفترض معظم الناس أن النظام القانوني لأي بلد هو السلطة النهائية التي تحكم سلوك المواطنين وتوفر الحماية لهم. ولكن الواقع أكثر تعقيدًا بكثير. خلف واجهة القوانين الرسمية، توجد شبكة غير منظورة من القواعد التي تتشكل من قوانين فضفاضة، وأنظمة عدالة عرفية، ودور الدولة كوصي على الأخلاق. هذا الواقع الموازي يؤثر بشكل عميق على حياة الفئات المُهمشة مثل النساء والأقليات، ويخلق حالة من عدم اليقين القانوني.

استنادًا إلى تقارير منظمات حقوق الإنسان، يستكشف هذا المقال خمس حقائق مقلقة تكشف عن هذه الظواهر وتأثيرها المباشر على العدالة والحريات.

1. سجن “مؤثرات” تيك توك

رقصة تتحول إلى تقويض قيم الأسرة
شنت السلطات المصرية حملة استهدفت مؤثرات على وسائل التواصل الاجتماعي، وكانت من أبرز القضايا قضية حنين حسام ومودة الأدهم. حُكم على الشابتين بالسجن لمدة عامين وغرامة قدرها 300 ألف جنيه مصري لكل منهما. كانت جريمتهما هي نشر مقاطع فيديو على منصات مثل تيك توك، ظهرن فيها بكامل ملابسهن، يغنين أو يرقصن أحيانًا، أو يدعون متابعات أخريات للانضمام إلى منصة “لايكي” لكسب المال [1].

لكن الآلية التي أدت إلى هذه الملاحقات تكشف عن عمق الأزمة. لم تبدأ الإجراءات بمبادرة من الدولة، بل انطلقت بعد أن قدم “مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي” شكاوى حول مقاطع الفيديو على صفحة النيابة العامة على فيسبوك، ورفع محامون دعاوى “حسبة”. وبهذا، تحولت الدولة إلى أداة لتنفيذ شكل من أشكال “الرِّقابة الشعبوية الرقمية”، حيث تستجيب لشكاوى عامة لفرض مفاهيم أخلاقية غير محددة. استندت الملاحقة القضائية إلى المادة 25 الغامضة في قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات لعام 2018، التي تجرم أي محتوى “ينتهك قيم الأسرة المصرية”، وهو مصطلح لم يقم القانون بتعريفه [2].

إن مراقبة سلوك النساء السلمي على الإنترنت تبدو وكأنها محاولة جديدة للسيطرة على استخدام النساء للمساحات العامة. [3]

(روثنا بيجم، ن رايتس ووتش)

2. الدولة كوصي اجتماعي

تصريح رسمي يكشف النوايا
لم تكن الملاحقات القضائية القائمة على “الأخلاق” مجرد حوادث فردية، بل هي انعكاس لفلسفة تتبناها أجهزة الدولة بشكل رسمي. في 29 يوليو، أصدر النائب العام بيانًا يكشف النوايا الحقيقية وراء هذه الحملات، حيث أعلن أنه “من الضروري حماية الأمن المجتمعي الوطني”، وأن دور النيابة العامة لا يقتصر على ملاحقة المجرمين فحسب، بل يتعداه لتعمل كـ “وصي على الأعراف الاجتماعية” [4].

هذا التصريح يمثل تحولًا خطيرًا يقوض مبدأ الشرعية الأساسي؛ أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني واضح. فهو يمنح النيابة العامة تفويضًا رسميًا لاستخدام “أعراف” ذاتية وغير مكتوبة كأساس للملاحقة الجنائية، مما يجعل القانون تعسفيًا ويعتمد على التقدير الأخلاقي للمدعي العام. وبهذا الموقف الرسمي، تجد الملاحقات القضائية ضد مؤثرات “تيك توك” أساسًا فلسفيًا، حيث تصبح “قيم الأسرة” غير المعرّفة قانونًا أساسًا لإصدار أحكام بالسجن.

3. عدالة خارج قاعة المحكمة

حينما تحل “الجلسات العرفية” محل القانون
في التعامل مع النزاعات الطائفية، خاصة في صعيد مصر، يتم اللجوء بشكل متكرر إلى “الجلسات العرفية” كبديل للنظام القانوني الرسمي. هذه الجلسات، التي غالبًا ما تتم بمشاركة أو موافقة ضمنية من المسؤولين الأمنيين، لا تمثل مجرد وساطة مجتمعية، بل تعمل كنظام قضاء شريعة إسلامية موازٍ يقوض الدولة المدنية.

تتجلى وحشية هذا النظام في أحداث قرية نزلة جلف بالمنيا مؤخرًا. فعلى إثر اتهام شاب قبطي بعلاقة مزعومة مع فتاة مسلمة صديقة لأخته، عُقدت جلسة عرفية لم تكتفِ بمعاقبة الشاب، بل فرضت عقابًا جماعيًا على أسرته. قضت الجلسة بتهجير أسرتين قبطيتين من منازلهما، وفرضت غرامة مالية قدرها مليون جنيه مصري على جد الشاب [5].

هذه الممارسات لا تنتهك فقط الحقوق الدستورية للمواطنين، بل ترسخ ثقافة الإفلات من العقاب وتخلق نظام عدالة موازيًا تكون فيه الأقليات في وضع غير متكافئ، وتُتخذ فيه قرارات مصيرية خارج إطار المحاكم والقوانين.

4. مفارقة الأمان المجتمعي

“جلسات النصح” صمام أمان حيوي
في مفارقة غريبة، أدى إلغاء إجراء كان يهدف إلى الحماية إلى زيادة المخاطر. حتى ديسمبر 2004، كانت هناك آلية رسمية تُعرف بـ”جلسات النصح والإرشاد”. بموجب هذه الآلية، كان أي مسيحي يرغب في اعتناق الإسلام يلتقي أولًا برجل دين مسيحي بحضور مسؤولين أمنيين قبل تسجيل التحول رسميًا. كان الغرض المعلن هو التأكد من أن القرار طوعي وغير ناتج عن إكراه، خاصة في حالات الفتيات القاصرات [6].

لكن هذا النظام كان معيبًا بشدة؛ فكثيرًا ما كان المسؤولون الأمنيون متواطئين وغير محايدين، ويشجعون على التحول إلى الإسلام. ومع ذلك، فإن إلغاء وزارة الداخلية لهذه الجلسات، حتى وهي معيبة، أزال الفرصة الرسمية الوحيدة المتاحة للأسر ورجال الدين للقاء الشخص المعني ومحاولة التحقق من إرادته الحرة. ترى منظمات حقوقية قبطية أن هذا الإجراء، وبشكل متناقض، لم يكن خطوة نحو تعزيز الحرية، بل كان إزالة لـ”صمام أمان” حيوي، مهما كان ضعيفًا، مما سهّل إخفاء حالات الاختطاف والاستدراج والتحويل القسري تحت ستار قرارات “طوعية”.

5. مقاضاة الضحية

استغاثت من الاغتصاب فوُضعت قيد الاحتجاز
تُجسد قضية الفتاة البالغة من العمر 17 عامًا، والمعروفة إعلاميًا باسم “آية” أو “منة عبد العزيز”، بشكل مأساوي كيف يمكن للنظام أن ينقلب ضد الضحية. نشرت آية مقطع فيديو على الإنترنت ووجهها متورم بالكدمات، مستغيثة من تعرضها للضرب والاغتصاب والتصوير والابتزاز على يد مجموعة من الرجال والنساء. بعد القبض على المعتدين، كانت استجابة السلطات صادمة. أصدرت النيابة العامة أمرًا باحتجاز آية نفسها، ليس فقط كضحية اعتداء، ولكن أيضًا كمشتبه بها في “جرائم أخلاقية” تتعلق بمقاطع الفيديو التي كانت تنشرها على حساباتها في وسائل التواصل الاجتماعي بشكل عام [7].

هذه القضية تكشف عن منطق مقلق: يمكن استخدام “الأخلاق” المتصورة للضحية أو وجودها على الإنترنت لتجريمها، حتى عندما تكون هي من تسعى لتحقيق العدالة من جريمة عنيفة ارتُكبت بحقها. إنها توضح بشكل صارخ كيف يخلق الخلط بين القانون والأخلاق الذاتية وضعًا خطيرًا للغاية، حيث قد يجد الضحايا أنفسهم في قفص الاتهام بجانب الجناة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إن هذه الأمثلة الخمسة ترسم صورة واضحة لواقع معقد يتجاوز نصوص القانون. فالتداخل بين القوانين الفضفاضة، والأعراف الاجتماعية التي تفرضها الدولة، وأنظمة العدالة غير الرسمية، يخلق بيئة قانونية محفوفة بالمخاطر، حيث تكون الحقوق الأساسية عرضة للتآكل. وهذا يطرح سؤالًا جوهريًا: عندما تتلاشى الخطوط الفاصلة بين القانون والعرف والأخلاق، من الأجدر بالحماية الحقيقية، ومن يُترك عرضة للخطر؟

‎ ‎ هوامش ومصادر: ‎ ‎
  1. : تقرير بشأن الأحكام المشددة ضد صانعات المحتوى على الإنترنت بتهمة الاتجار بالبشر. منشور بتاريخ 24 أغسطس 2021. [🡁]
  2. : قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018، المادة 25. [🡁]
  3. Rothna Begum, Former Associate Director of Human Rights Watch, Women's Rights Division. [🡁]
  4. ، برنامج على مسئوليتي، قناة ، الحلقة الكاملة 29-7-2024. [🡁]
  5. المبادرة المصرية للحقوق الشخصية: مشاركة مسؤولي الدولة في توقيع العقوبات “العرفية” تكرس الطائفية بدلًا من علاجها. منشور بتاريخ 26 أكتوبر 2025. [🡁]
  6. ، ، وأد الفتنة الطائفية بجلسات «النصح والإرشاد». منشور بتاريخ 11 مارس 2025. [🡁]
  7. المبادرة المصرية للحقوق الشخصية: بعد احتجازها أربعة أيام والتحقيق معها كمتهمة، المبادرة تطالب بالإفراج الفوري عن منة عبد العزيز، وإسقاط التهم الموجهة لها. منشور بتاريخ 30 مايو 2020. [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي 0 حسب تقييمات 0 من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

باسم الجنوبي
[ + مقالات ]
‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎