نستعرض في هذه الحلقة أصل التعليم بالملك الألفيّ الحرفيّ للمسيح على الأرض، ولكن قبل ذلك، سوف نفحص هل هذه الفكرة كانت موجودةً في فترة الهيكل الأول أو قبل ذلك في الكتابات التوراتية.
اليهودية في فترة الهيكل الأول وما قبلها
لم تنشأ فكرة عقيدة كاملة الملامح عن الملك الألفيّ الحرفيّ للمسيح على الأرض خلال فترة الهيكل الأول، وذلك من القرن العاشر إلى القرن السادس قبل الميلاد، أو قبل ذلك في الكتابات التوراتية، كما ظهرت فيما بعد في يهودية الهيكل الثاني أو في المسيحية المبكرة؛ لكن كان هناك تيارات نبوية وكهنوتية ورؤيوية مهَّدت الطريق لهذه الفكرة لاحقًا، حيث تتضمَّن أفكارًا أوليةً عن عهد ذهبيّ أو عصر ذهبيّ سيجلبه الله بعد التدخُّل الإلهيّ الحاسم [1].
تقليد العهد الموسوي
يمتد العهد الموسويّ من عصر موسى النبيّ وحتى بداية الملكية، وكانت طبيعة الفكر في هذا العصر عبارة عن وعود كتابية توراتية، كما في سفر التثنية (28-30)، تُصوِّر البركة الأرضية، والسلام، وصور لاحقة فُسِّرَت على أنها نهاية أوقات مثالية [2].
حلقات الملكية الداودية والسليمانية
ويمتد الإطار الزمنيّ لهذه الحلَقات في مملكة داود وسليمان حوالي القرن العاشر قبل الميلاد، وكانت طبيعة الفكر آنذاك هي وعدٌ بعهدٍ داوديّ أبديّ [3]، حيث الوعد بملك عالميّ يجلب العدالة والسلام. وفي أطر لاحقة، وُضِعَ في سياق ”ملكية مسيانية“ في آخر الزمان [4].
دوائر الأنبياء
ويمتد الإطار الزمنيّ لهذه الدوائر ما بين القرن التاسع إلى القرن السابع قبل الميلاد، كما في أسفار إشعياء وميخا وغيرهم من الأنبياء، وتشير طبيعة الفكر آنذاك إلى ”يوم الربِّ“ كذورةٍ تاريخيةٍ تقود إلى عهد ذهبيّ من السلام العالميّ والعدالة كما جاء في سفر إشعياء 2، سفر ميخا 4 [5].
دوائر نبوية رؤيوية
ويمتد الإطار الزمنيّ لها ما بين القرنين السابع والسادس قبل الميلاد، وقبل وأثناء السبي البابليّ. وملامح الفكر في ذلك الوقت، كما جاء في رؤى مثل حزقيال (40-48)، تُصوِّر هيكلًا مُقدَّسًا مبنيًا، وتوزيعًا جديدًا للأرض، وحضورًا إلهيًا دائمًا، ومُخطَّطات لعصرٍ جديدٍ على الأرض [6].
تقليد الحكمة ما قبل السبي
ويمتد هذا التقليد في فترة حكم الملك سليمان وما بعدها، حيث يتضمَّن أدب الحكمة مثل المزامير والأمثال تلميحات إلى انتصار مستقبليّ للأبرار وهلاك الأشرار [7].
تقاليد حرب يهوه
ويمتد الإطار الزمنيّ لها في الفترة ما قبل الملكية حتى الملكية، ويتجلَّى في هذا الفترة مفهوم حرب نهائية حيث يتدخل الله لهزيمة الأعداء نهائيًا، فتبدأ فترة سلام، ويمكن رؤية انعكاس هذا الفكر في نشيد دبورة (سفر القضاة 5) وفي سفر إشعياء (24-27) [8].
اليهودية في فترة الهيكل الثاني
شهدت فترة الهيكل الثاني [حوالي 516 قبل الميلاد – 70 بعد الميلاد] تنوعًا واسعًا في المعتقدات والتيارات الفكرية داخل اليهودية، من بينها تيارات ذات طابع رؤيويّ حملت أفكارًا مُتعلِّقةً بالملك الألفيّ الحرفيّ للمسيح. تقوم هذه العقيدة على الإيمان بأن الله سيتدخل في التاريخ ليقيم ملكًا إلهيًا على الأرض يستمر لفترةٍ زمنيةٍ مُحدَّدةٍ (غالبًا ألف سنة أو مدة رمزية أخرى)، يسود فيها العدل والسلام قبل الدينونة الأخيرة.
وقد تفاعلت هذه الأفكار مع السياق التاريخيّ والسياسيّ المضطرب آنذاك، مثل الاحتلالات الأجنبية كالبابلية، والفارسية، واليونانية، والرومانية، وما صاحبها من أزمات قومية ودينية. وقد أدى ذلك إلى ظهور طوائف وحركات دينية مُتعدّدة، كان لبعضها مشاريع إصلاحية أو ثورية أو انعزالية، وجميعها تقرأ الأحداث من منظور نبويّ وإسخاتولوچيّ [9]، وسوف نستعرض أبرز تلك الحركات والطوائف، ونُبيِّن موقفها من الفكر الألفيّ.
الإسينيون
كانوا يتوقعون معركة أخروية نهائية عبارة عن حرب بين بني النور وبني الظلام، وتنتهي بإعادة إسرائيل مُطهَّرةً تحت حكم المسيا أو المسيحيين: الكهنوتيّ والملوكيّ. تصوَّروا مملكة مشتركة على الأرض، يكون الهيكل المعَاد بناؤه أو المطهَّر مركزها. وتشير بعض المخطوطات إلى مدة زمنية مُحدَّدة مرتبطة غالبًا بأربعين سنة من الحرب أو أرقام رمزية قبل العصر الأبديّ. وهكذا رأى الإسينيون أنفسهم على أنهم البقية المختارة التي سترث هذا العصر الذهبيّ. كما نجد في مخطوطة الحرب أنها عبارة عن أربعين عامًا من الحرب تنتهي بانتصار الله [10].
الغيورون
كان الغيورون قوميين مُتشدِّدين رأوا أن الثورة المسلَّحة هي الدافع لتدخل الله المباشر لإقامة ملكوته. واعتقدوا بأن الله سوف يُخلِّص إسرائيل بطريقةٍ معجزيةٍ من الاحتلال الرومانيّ ويُعيد الحكم الداوديّ. ورغم أن لاهوتهم أقل تطورًا من كتابات جماعة قمران، إلا أن فكرهم تضمَّن حكمًا أرضيًا بالبر تحت سلطة الله وتطبيق الشريعة بالكامل [11].
التيارات الفريسية الرؤيوية
لم يكن جميع الفريسيين ذوي نزعة ألفية، لكن بعضهم ذا نزعة مسيانية ألفية واضحة. حيث كانوا يتوقعون مجيء المسيح الداوديّ الذي سيُطهِّر أورشليم، ويجمع الشتات، ويحكم بسلامٍ. وكانوا يؤمنون بقيامة الأبرار للمشاركة في الملكوت المسيانيّ قبل الدينونة الأخيرة. حيث تُصوِّر مزامير سليمان (17-18) مسيحًا يحكم جميع الأمم في أورشليم، وهي صورةٌ لملكوت ألفيّ واضح [12].
الحركات النبوية الرؤيوية
لم تكن هذه الحركات دائمًا طوائف مُنظَّمة، بل جماعات تتبع قادة كاريزماتيين. ومن أمثلة هذه الحركات: جماعة النبيّ ثوداس [13]، والنبيّ المصريّ [14]، حيث وعد هؤلاء القادة بإعادة تحقيق معجزات الخروج، واستحضار ملكوت الله فورًا. غالبًا ما تصوَّرت هذه الحركات تحوُّلاً سياسيًا وروحيًا مُباشرًا في يهوذا [15].
الحركات اليهودية-المسيحية المبكرة
وهي الحركة التي كانت في أواخر يهودية الهيكل الثاني، التي توقعت العودة القريبة للمسيح يسوع ليملك من أورشليم لفترةٍ، فسَّرها التقليد المسيحيّ اللاحق بأنها ألف سنة، واحتفظت بإطار الرؤيا أو الإعلان اليهوديّ: القيامة، ثم وليمة مسيانية، ثم استعادة إسرائيل [16].
جماعات النصوص الرؤيوية الأخرى
وهي جماعات مثل جماعة أخنوخ الأول، خاصةً في كتاب ”الأمثال“ [17]، حيث تُصوِّر ”ابن الإنسان“ حاكمًا بالبرِّ على الأرض قبل الدينونة الأخيرة. وهناك أسفار عزرا الرابع [إسدراس الثاني] وباروخ الثاني التي كُتِبَت بعد خراب الهيكل مُباشرةً، لكنها حفظت فكر أواخر الهيكل الثاني، مثل حُكم المسيح لمدة 400 سنة قبل الملكوت الأبديّ [18].
يستعرض رايموند براون تاريخ تطوُّر تعليم الملك الألفيّ الحرفيّ للمسيح، حيث يرى أن أصل هذا الاعتقاد موجودٌ في توترٍ مُعيَّنٍ بين التوقعات النبوية والتوقعات الرؤيوية. وإذا استعرضنا تاريخ المسيانية، فثمة توقع لم يُؤثِّر فيه السبي البابليّ وهو أنه سيأتي يوم يُعيد الله فيه مملكة داود ليحكمها ملك ممسوح نموذجيّ، وهو المسيا، والواقع أنه أُعِيدت قراءة الأسفار الأقدم عهدًا في إطار هذا المفهوم (على سبيل المثال عاموس 9: 11). وعلى الرغم من أن هذه المملكة، خُلِعَت عليها سمات مثالية وصُوِّرت على أنها مُميَّزةٌ إلا أنها ستكون مملكةً أرضيةً تاريخيةً، وفي كثير من الأحيان لا تكون علاقاتها بنهاية الزمان واضحةً. وعلى صعيدٍ آخر، وفي نظرة متشائمة للتاريخ، نجد أن بعض الكتابات الرؤيوية تذكر تدخُّل الله المباشر والأخير من دون أن تذكر بأيّ شكلٍ كان استعادة مملكة داود (إش 24-27، ودانيال، وكتاب صعود موسى، وكذلك كتاب رؤيا إبراهيم) [19].
يستطرد براون في نفس السياق ليُشِير أنه من بين طرق الجمع بين هذين التوقعين أن نضع تدخُّلين إلهيين: (1) استعادة مملكة أرضية، وفترة من الازدهار العظيم تعقبها. (2) انتصار الله في نهاية الزمان والدينونة. وحيث يكون هناك تأثير قويّ للفكر اليونانيّ-الرومانيّ، ربما تكون التوقعات التقليدية لعصرٍ ذهبيّ قد شكَّلت الوصف اليهوديّ للمملكة المسيانية. وقد استُخدِمَت أعداد مختلفة لترمز إلى مدة بقاء الفترة المتوقعة. وفي جزءٍ وصف أنها ”أسابيع رؤيوية“ ظهر مع القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد. جاء في أخنوخ الأول أنه بعد انقضاء سبعة من الأسابيع العشرة، سيكون الأسبوع الثاني فترةً يسود فيها البرّ، أمَّا التاسع فهو الفترة التي سيتمُّ فيها الدمار، وفي العاشر تُحاكَم الملائكة، ويأخذنا هذا إلى الأبدية [20]. وفي عزرا الرابع مع أواخر القرن الأول الميلاديّ، وُصف بانه بعد أن يضع الله نهايةً لجيل شرير، يحكم المسيا لمدة 400 سنة مع الأبرار على الأرض. ثم تأتي قيامة الأموات والدينونة [21]. وثمة تقليد مماثل عن إقامة طقوس الأبرار وقت ظهور المسيح نجده في باروخ الثاني مع أوائل القرن الثاني الميلاديّ [22].
وفي الكتابات الرؤيوية المسيحية يُقدِّم لنا ما جاء في كورنثوس الأولى [23] هذا الترتيب: أولاً قيامة المسيح، ثم الذين ينتمون إليه، حيث يحكم حتى يضع أعداء تحت قدميه، ثم تأتي النهاية حين يُسلِّم المسيح الملكوت لله حيث يُحطِّم كل حُكم وسلطان وقوة. وبعد أن يكون بليعال قد حكم لمدة 1332 يومًا، يأتي الربُّ وملائكته وقديسوه ويُلقِي بليعال إلى جَهنَّم، تعقب ذلك فترة راحة لمَن هم في هذا العالم، وبعد ذلك سيُؤخَذون إلى السماء [24].
ولكن يُعلِّق براون على نقطة اختلاف الأرقام في هذه التوقعات، الذي يجب أن يُحذِّرنا بأنه ليس أحد من هؤلاء الكتبة لديه معرفة حقيقية عن فترات الزمن المستقبلية، وفي الغالب الأعم ربما لم يقصدوا إطلاقًا أن تكون كتاباتهم دقيقةً. والواقع طبقًا للتحليل السابق ذكره آنفًا والخاص بالتوقعات الخاصة بالتدخُّل الإلهيّ الأول والخاص بإقامة مملكة، أو زمن مثاليّ في هذا العالم، وتدخُّل إلهيّ ثانٍ لاستبدال العالم الزمنيّ بالأبديّ، فبوسعنا أن ننظر إلى التدخُّلين على أنهما ببساطةٍ من الطرق الرمزية بالتنبؤ بانتصار إلهيّ على قوى الشرِّ والشيطان التي تُعد عائقًا أمام ملكوت الله أو الحكم على العالم بأسره. وعلى ذلك، فإن سفر الرؤيا لابد وأنه استخدم الحُكم الألفيّ ليسوع على الأرض، ليس لوصف مملكة تاريخية، بل كطريقةٍ للقول إن التوقعات الإسخاتولوجية سوف تتحقَّق [25].
ويستعرض ديفيد دي سيلفا جذور عقيدة الملك الألفيّ الحرفيّ للمسيح، حيث يتكلَّم سفر عزرا الرابع [26]، الذي ربما كُتِبَ بعد بضع سنوات من كتابة سفر الرؤيا، عن مملكة مسياوية تدوم أربعمائة سنة، التي في نهايتها يموت المسيا وكل الذين معه. وسيرجع الكون إلى ”صمت بدائيّ لسبعة أيام“ (كما في بداية هذا الكون)، الأمر الذي تحدث بعده القيامة، والدينونة، والجزاء الأبدي [27].
ويستطرد دي سيلفا في نفس السياق مُتحدِّثًا عن سفر باروخ الثاني [28]، المعاصر لعزرا الرابع ولسفر الرؤيا، الذي يتكلَّم عن عصر مسياويّ ذي خصوبة مُميَّزة، حيث كل سنبلة قمح وكل عنقود عنب تُعطِي ما يكفي من الخبز والخمر لإشباع الكثير من الناس، قبل القيامة والدينونة. رؤيا مثل هذه غالبًا ما تتعرَّض للانتقاد كضربٍ من الخيال للانغماس والإشباع الدنيويّ، ولكن ربما ستكون رجاءً ملائمًا ومناسبًا لأولئك الذين عرفوا دائمًا الحاجة ليطلبوا ملكوتًا بينما يوجد في النهاية ما يكفي للجميع، حيث جميع الشعوب سيأخذون كفايتهم [29].
صدر للكاتب:
ترجمة كتاب: "الثالوث"، للقديس أوغسطينوس أسقف هيبو [٢٠٢١]
كتاب: عظات القديس غريغوريوس النيسي على سفر الجامعة [٢٠٢٢]
ترجمة كتاب: "ضد أبوليناريوس"، للقديس غريغوريوس النيسي [٢٠٢٣]
كتاب: الطبيعة والنعمة بين الشرق والغرب [٢٠٢٣]
كتاب: مونارخية الآب في تعليم آباء الكنيسة [٢٠٢٤]
