مصطلح “العالم الافتراضي” انتهى زمنه، والحديث عنه، أو الهجوم عليه من الدولة والكنيسة والمؤسسة الأبوية، يذكرني بجيل من أسلافنا الذين هاجموا اختراع التليفون ذو القرص، ورأوا أنه وسيلة للمعاكسات تقود إلى الفسق والمجون والإغواء الجنسي. وسيلة التواصل هي ببساطة “أداة” تزعج السلطويين والمحافظين الذين يقوم عالمهم على العزل الاجتماعي، مسببين لأبنائهم عاهات تعيق اندماجهم في المجتمع.

في الحقيقة، إن العالم الافتراضي هو الذي غادر الكابلات وتحول إلى حَراك مسكوني عالمي غير قابل للوقوف أمامه. وربما لمس بعضنا ظهوره بقوة في مصر مع 25 يناير 2011. وبغض النظر عن موقفك، فالحراك نفسه كان لا مركزيًا وبتنسيق جماعي مرعب لكل من تعتمد سلطته على: عزل وحدات المجتمع وتمزيقها. في يناير أثبت الافتراضي أنه أكثر تنظيمًا من الشرطة والجيش والإخوان والأحزاب والنقابات، وأكثر ترابطًا من العلاقات الأسرية والأبوية، وأكثر مبدئية وأخلاقًا من المسجد والكنيسة، والأهم: الأكثر وعيا وذكاء وتهورا ومغامرة بشكل انتحاري.

وسواء قبلت السلطة هذا واستثمرته، أو فزعت منه وناصبته العداء، فإن العالم يستمر ويمضي بشكل مختلف بعد أن أجبر هذا المؤسسات نفسها على تسجيل أنفسها في الافتراضي، الذي صار بمثابة مساحة الوجود الآمن لغير المستنسخين. الحكومة نفسها أنشأت صفحات وعينت موظفيها للتعليق فيها. المؤسسات الصحفية الرثة أُجبرت على التطور أو الانقراض. حتى الكنيسة والجامع والمؤسسة الأبوية دخلت الافتراضي متسللة حاملة “حلة المحشي”، تتظاهر بالرعاية من أجل استعادة سلطتها المهددة.

الإحصائيات المعلوماتية تشهد أن أرقام مستخدمي الإنترنت قد تضاعفت بشكل انفجاري بعد يناير. لكن هل “النازحون الجدد”، كثيرو العدد، والمدفوعون قسرًا للقفز من شرفات بيوتهم لأن الأثاث يحترق، هم بكفاءة “المواطن الافتراضي” في التعامل مع بيته الذي أسسه وأثثه بكل الحروف والأكواد والانفعالات والقيم؟

المسألة مربكة لكل الأطراف. لكنها مفزعة أكثر ما يكون للمحافظين من مهاجمي “التليفون أبو قرص”. إذ بعين الغد أراهم يخشون أبناءهم الذين صاروا مواطنين أُصلاء في عالم سيظلون دومًا مجرد مهاجرين إليه. ولأنهم يخشونهم، فهم يوكلون لبيروقراطياتهم مسؤولياتهم الأبوية التي تترنح من فقدان آليات السيطرة على الجيل القادم الذي يحتقر الكل. الكل، بلا استثناء.

سنوات مضت على يناير، سنوات تكفي لأن ينشأ جيل جديد لم يحضر هذا الصراع المسكوني العظيم، لكنه لمس الثروة الحضارية التراكمية المحفورة في قلوب صناع الافتراضي. صار الافتراضي لديه هو الحياة الوحيدة التي يعرفها للتعبير عن رأيه أو رأيها دون أن يجبر على الصمت، أو يكره على التوافق مع غيره، أو يمارس النفاق والتطبيل لمن يتقدم في الهرم الوظيفي، أو الرتبة، أو الأقدمية، أو الوصاية الأبوية.

الافتراضي مزعج للكثيرين فعلًا، صحيح؛ لكن تظل العلاقات فيه هي الأكثر أمنًا من تحرشات وانتهازية الشوارع. والكلمة فيه هي الأكثر صدقًا من الوعود الحكومية بعدم زيادة الأسعار، ومساحات الرأي فيه هي الأكثر حريةً من القيد الأسري الوصائي، والأكثر ارتجالًا من أفكار حائر، والأكثر خفة دم من المسرح والسينما، والأكثر ثقافةً من مكتبات قصور الثقافة، والأكثر سرعةً في طلب مساعدة، أو منيو رمضان، أو شراء حذاء، أو استخراج بطاقة رقم قومي، أو قراءة خبر، أو حتى دعوة عرس أو عزاء مصاب، أو خربشة أفكار، أو تقديم اقتراح لمسؤول، أو تقديم عقاب لمنفلت. هو الأسرع حتى في تسجيل لحظات الضحك والبكاء واستعادة الذكريات والصور الفوتوغرافية لمن كانوا بيننا يومًا، ورحلوا عنا.

ربما كان الافتراضي بالنسبة لصانعيه من أبناء جيلي أشبه بالوطن البديل، ربما؛ لكنه بالنسبة للجيل القادم فهو كل ما يمتلكون.

في العصر الرقمي الحالي، لم يعد إنتاج الأفكار يحتاج مصانع، أو موافقات، أو كلفة إنتاج، أو حتى مسؤولي ضبط إملائي ولغوي.. بل مجرد حساب مجاني.

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي 0 حسب تقييمات 0 من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

باسم الجنوبي
[ + مقالات ]