عرضتُ، عبر سطور الجزء الأول، من هذا الطرح، أزمة الكنيسة وسبل الخروج منها في تقديري، وأفسح سطوري هنا لتفصيل ما أجملته، سعيًا لأن تهتدي الكنيسة لسلامها، تستعيده وتبني عليه، لتنتهي إلى وقفة أمينة تضع حدًا للتشاحن القائم عبر آليات العالم الافتراضي بين أجنحة مجمع أساقفتها، الذي يهدم ولا يبني، يشتت ولا يجمع.
ولعل البداية في تبني الكنيسة (إكليروس وأراخنة) وضع دستور جامع مانع يحدد إيمانها وطقوسها وخدمتها، تأسيسًا على التسليم الرسولي الآبائي الذي قننته ووثقته المجامع المسكونية في قوانينها، وخبرات الكنيسة على الأرض، في ضوء حاجات العصر وتحدياته ومعوقاته، وهو عمل كنسي أكاديمي يستوجب تعاون وتكاتف كل مكونات الكنيسة، لننتقل من الفرد إلى المؤسسة، وهو عمل يوفر للكنيسة مرجعًا يتم الرجوع إليه بين المختلفين، ويحميها من الآراء الشخصية ومن الحكم بالانطباع الذاتي الذي قد يتشكل بعيدًا عن إيمان الكنيسة القويم، وقد سبقتنا كنائس تقليدية رسولية إلى هذا.
وظني أن هذا العمل الجسور سيسهم بشكل فاعل في حسم قضية التقارب المسكوني خارج السياقات البروتوكولية، وبغير تخوف من الابتلاع أو الذوبان، فلكنيستنا ثقلها التاريخي واللاهوتي ولا ينقصها الحكمة والقدرة على بناء جسور حوار موضوعي جاد ومثمر لحساب وحدة الكنيسة، شهوة قلب رب المجد حسب صلاته الوداعية في بستان جثسيمانى:
أيها الآب القدّوس، احفظهم في اسمك الّذين أعطيتني، ليكونوا واحدًا كما نحن.[1](يوحنا ١٧: ١١)
ولست أسأل من أجل هؤلاء فقط، بل أيضًا من أجل الّذين يؤمنون بي بكلامهم، ليكون الجميع واحدًا، كما أنك أنت أيها الآب فيّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا.[2](يوحنا ١٧: ٢٠-٢١)
ليكون فيهم الحبّ الّذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم.[3](يوحنا ١٧: ٢٦)
بحث إعادة مشاركة الأراخنة في تدبير الكنيسة في تكامل مع الإكليروس لتستعيد الكنيسة توازنها، في ترجمة لمفهوم الكنيسة التي تعتبر الإكليروس والعلمانيين هم معًا “شعب الله”، وتأكيدًا على مبدأ الشفافية وتخفيفًا للحمل عن كاهل الأسقف، ولتوفير قدر أكبر من مراقبة أوجه صرف موارد الإيبارشيات في شفافية تخضع لقواعد تنظيمية عامة ومجردة وملزمة. والمشاركة هنا ليست على سبيل الاستشارة، شركاء لا مستشارون.
وبطبيعة الحال فإن عودة المجلس الملي باتت ضرورية كما بينا سابقًا، بعد تغيير المسمى المفارق للواقع والذائقة المعاصرة، وكذلك تحديد مهامه المستجدة في لائحة، والأفضل في قانون، كما هو الحال مع هيئة الأوقاف القبطية.
مراجعة وتقييم تجربة الكنيسة في رسامة الأسقف العام، في تطوراتها، بين اختيارهم في حبرية البابا كيرلس السادس وقد أُسندت لهم مهام محددة في تقليد رسامتهم، وبين اختيارهم في حبرية البابا شنودة والبابا تواضروس بلا مهام محددة، توطئة لتجليسهم في إيبارشيات يرحل أسقفها، أو إسناد إشراف كنائس لهم في إيبارشية البابا (القاهرة والإسكندرية)، وقد يكون من المفيد في هذا السياق دراسة عودة رتبة الخوري أبسكوبس في الهرم الإكليروسي، يتولون مهام تدبير أجزاء من الإيبارشيات تحت قيادة أسقفها بدلًا من تقسيمها.
وفي ذات السياق التوقف عن تقسيم الإيبارشيات، وتجميع الإيبارشيات الصغيرة التي تقع في نطاق المحافظة الواحدة، ورسامة مطران لكل محافظة يتبعه ـ في الوضع الراهن ـ أساقفة تلك الإيباشيات المجمعة، يكون مقره في عاصمة المحافظة.
ومثالنا إيبارشية البابا البطريرك التي يترأسها قداسته، ويعاونه أساقفة أسند إلى كل واحد منهم إدارة مجموعة كنائس يجمعهم نطاق جغرافي واحد داخل الإيبارشية.
مراجعة منظومة الرهبنة المعاصرة، باعتبار الأديرة المخزون الاستراتيجي اللاهوتي والتدبيري للكنيسة، شخوصًا وعقائد وتراثًا، وفصلها عن التعليم الإكليريكي الخاص بالخدام المكرسين في دائرة الإكليروس. ووضع لائحة تنظم قبول طالبي الرهبنة ومناهج إعدادهم ومتابعتهم قبل وبعد الرهبنة إحياء لنسق التلمذة الذي لا تقوم الرهبنة السوية بغيره، والعودة لإسناد رئاسة الدير لأحد رهبانه وليس بإقامة أسقف للدير، ليحتفظ الدير بسلامه ونموه وإمكانية تغيير رئاسة الدير، دون قيود تغيير الأسقف، ويمكن لتواصل الأديرة مع الكنيسة رسامة أسقف عام لشئون الأديرة.
إنشاء آلية لإعداد الرهبان المرشحون لتولي مناصب كنسية خارج نطاق الأديرة، تكون ملحقة بالمقر البابوي، يقوم علي إدارتها مؤسسات الكنيسة التعليمية، الإكليريكية الأم ومعهد الدراسات القبطية ومراكز البحث القبطية الأرثوذكسية، وتستعين بالكوادر الأكاديمية ذات الصلة بالجامعات المصرية عبر بروتوكولات تعاون ثقافية بينها وبين الكنيسة، تغطى جانب العلوم الإنسانية في إعداد المرشحين للأسقفية.
فك الارتباط بين الكهنوت والرهبنة داخل الأديرة، ذلك الارتباط الذي يقف وراء جل مشاكل ومتاعب الرهبنة، والاكتفاء بأقل عدد ممكن من الكهنة الرهبان، داخل كل دير، بقدر احتياجات الدير، ورد الاعتبار لشيوخ الأديرة في سعي لإعادة نسق التلمذة للأديرة كما كانت في السابق. فتسترد الأديرة عافيتها وسلامها ونموها.
إنشاء آلية مركزية لإدارة المشروعات الإنتاجية الديرية، وتوزيع ريعها على الأديرة الفقيرة أو التي لا تملك مثل هذه المشاريع، وكذلك الإيبارشيات محدودة الدخل، في تطبيق على الأرض لنذر “عدم القنية ـ عدم الامتلاك” ولتحقيق التوازن بين الأديرة. وكذلك في الكنيسة.
فضلًا عن تولي هذه الآلية مسؤولية تسويق منتجات تلك الأديرة، لترفع عن الرهبان ثقل الانشغال بهذه المهمة الثقيلة وما تجلبه من متاعب على الدير ورهبانه، وفي بعضها ترقى إلى مستوى الجريمة.
دراسة الحاجة لإنشاء منظومة للتكريس خارج أسوار الأديرة، بالتوازي معها، ومجال عملها خدمة المجتمع العام والقبطي في دوائر التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية وهي تتيح توافر باحثين لاهوتيين يعكفون على الدراسة والبحوث اللاهوتية والعقائدية والتعامل مع أجيال الشباب وتوعيتهم وبناء رؤاهم الكنسية على أرضية مسيحية أرثوذكسية نقية.
ولدينا خبرات عملية متوفرة في مراكز بحثية قبطية قائمة وفاعلة منها على سبيل المثال مؤسسة القديس أنطونيوس ومركزها لدراسات الآباء التي أسسها الدكتور نصحي عبد الشهيد، وقدمت للكنيسة باحثين ثقاة استعانت بهم في معاهدها التعليمية.
مراجعة الملابس الخاصة بالأسقف وردها لأصلها المصري القبطي الذي يتسم بالبساطة، بغير تزيد أو مغالاة مثل التي نشهدها اليوم وتشهد سباقًا في التفرد بإضافات، تنتمي للعصور الوسطى وتشبه الملابس الإمبراطورية، المفارِقة للحس القبطي، وهو أمر يحتاج لتوفر قدر كبير من التجرد والمصالحة مع الحياة الطبيعية، وتسهم في تأكيد طبيعية العلاقة السوية بين الأسقف والكاهن وبينهم وبين الرعية، بلا غلو وبلا استعلاء، وهو ما طرحناه قبلًا تحت عنوان “أنسنة الإكليروس”، وهو ما أكده الرب يسوع المسيح في تجسده، وهو المثل والقدوة.
وفي سياق المراجعة، على الكنيسة أن تراجع ظاهرة انتشار إقامة مدفن، يحاكي المذبح المقدس، لكل أسقف يتنيح، ويتحول إلى مزار شعبي التماسًا لحل مشاكل من يلجأ إليه، في مخالفة فادحة لما تُعلم وتؤمن به الكنيسة، فهذه الظاهرة توجه الانتباه بعيدًا عن طلب وجه المسيح وهي تنويعة على الارتداد للوثنية، ويتفق مع ما قاله الكتاب لأَنَّ شَعْبِي عَمِلَ شَرَّيْنِ: تَرَكُونِي أَنَا يَنْبُوعَ الْمِيَاهِ الْحَيَّةِ، لِيَنْقُرُوا لأَنْفُسِهِمْ أَبْآرًا، أَبْآرًا مُشَقَّقَةً لاَ تَضْبُطُ مَاءً
. [4].
وضع ضوابط للعلاقة بين الأسقف وكهنة إيبارشيته ترتفع بها من التبعية إلى التكامل، وتحفظ للكهنة إنسانيتهم وتحميهم من الفصل التعسفي وتوفر لهم ضمانات العيش الآمن، ودراسة إقامة هيئة كنسية توفر لهم معاشًا مناسبًا حال تقاعدهم بسبب الشيخوخة أو المرض، وتوفر لبيت الكاهن دخلًا مناسبًا حال رحيله، بشكل يصون إنسانيتهم وكرامتهم، ولا يخضع للتقدير الشخصي الذي يراه الأب الأسقف، وإعادة النظر في اشتراك الكاهن في منظومة التأمينات الاجتماعية بصفته صاحب عمل. وفيه يتحمل الكاهن كل قيمة الاشتراك التأميني بما فيه حصة الكنيسة التي ترفض التأمين عليه كعامل لديها، وفق قوانين العمل، وكذلك الأمر مع التأمين الصحي للكاهن وأسرته. أو دراسة إنشاء منظومة تأمين كنسية خاصة، بالاستعانة بخبراء التأمين والعلوم الإكتوارية، ذات الصلة بالتأمين والمعاشات التقاعدية، من أبناء الكنيسة.
وتبقى إشكالية الإعلام الكنسي وحاجته إلى تطبيق معايير الإعلام المهنية والفنية وإسناده إلى متخصصين من شباب الكنيسة، بعيدًا عن الهيراركية الإكليروسية، بإنشاء مركز إعلام مركزي يتبع مكتب البابا البطريرك وهيئة مجلس الأراخنة، يتبعه فروع في كافة الإيبارشيات، تحكمه المعايير الإعلامية المهنية المجردة، وصالح الكنيسة.
أحسب سطوري ورقة عمل مقدمة لمجمع الأساقفة، على أمل أن يتوفر لديه إرادة التصحيح، والخروج بالكنيسة من نفق طال.
صدر للكاتب:
كتاب: العلمانيون والكنيسة: صراعات وتحالفات ٢٠٠٩
كتاب: قراءة في واقعنا الكنسي ٢٠١٥
كتاب: الكنيسة.. صراع أم مخاض ميلاد ٢٠١٨
