منذ فجر الفكر الإسلامي والعربي الحديث، تم التفاعل مع مصر القديمة بطريقة مركبة: باعتبارها مقرًا لآيات دينية، وأرضًا تاريخية، ومصدرًا ثقافيًا يُعاد تفسيره عبر عدسات الهوية القومية أو الدينية. هذا التفاعل لا يقتصر على دراسة تاريخية هادئة، بل يخوض في أحيان كثيرة معارك ة تهدف إلى إعادة كتابة الحضارة المصرية بما يتلاءم مع سرديات قومية أو دينية حديثة.

في هذا المقال، سنحاول تفكيك هذه القضية، أي كيف تم استخدام علم المصريات -أو بالأحرى تأويل تاريخ مصر القديمة- ضمن بعض التيارات العربية والإسلامية لتعزيز فكر قومي أو ديني، وكيف أن أغلب هذه التأويلات لا تستند إلى الأدلة الأثرية أو العلمية الحديثة، بل إلى تأويلات لغوية أو رمزية، والأدهى تقديمها على أنها مسلمات دينية أو علمية تدعم هذه التصورات، من منطلق إعجاز علمي في القرآن والسنة إلى أمجاد يا عرب أمجاد.

السياق القرآني والأحاديث:
إعادة تأويل مصر القديمة

أول نقطة يجب النظر فيها هي كيف قدم النص الديني (القرآن) وبعض الأحاديث مصر وقدامتها: القرآن يصف فرعونا كمثال للظلم، على الطريقة التوراتية تمامًا، ويعرض صراعه مع موسى بطريقة أخلاقية وروحية، في تمجيد لشعب إسرائيل على أنه هو شعب الله، أعطاهم الله الأرض دون غيرهم وفضلهم على العالمين. لكن دون أن يحدد موقعه الأثري أو الحقبة الزمنية بدقة.

ومن هذا المنظور، فلا عجب أن يتحول المسلم المهتم بالدين، خارج الإطار الفلكلوري والطقسي العام، إلى عدو صريح للتاريخ المصري ولأثاره. فرعون بالنسبة له هو رمز الشر والظلم والعبودية، وأرض مصر القديمة تحولت في أذهانهم إلى أرض الكفر والفساد.

في المتاحف المصرية ترى الكنوز والتماثيل، فيقرأ البعض فيها آيات عن فرعون الظالم، ويحول الإنجاز الحضاري إلى درس أخلاقي أو عقابي، لتبرير موقف أيديولوجي عدائي.

البعض يضرب التماثيل على وجوهها وهو يقرا آيات من القرآن “مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ”.

أما خارج جدران المتاحف، فالمثال صارخ: طالبان و هدموا الآثار ولم يكتفوا بالتأويل، ونهبوا الكنوز، وباعوا الذهب والمخطوطات وكأنهم يطبقون شرعهم فوق القانون.

حتى الثقافة الشعبية، المتأثرة بالتاريخ المسيحي ثم الإسلامي، لم تتخلص من هذا العقلية: التماثيل والآثار تسمى عند العامة «مساخيط»، وحضارة مصر القديمة تختزل في صورة أرض عبيد وكفر، بدل أن تُقرأ كتراث حضاري عالمي يحتاج للحماية والدراسة.

ومن العجيب أن يخرج الشيخ السلفي ، في 2010 يقول للناس: إن وجدت أثار في أرضك وتحت بيتك، فأنت مالك الأرض وما تحتها، فهو ملكك، لا ملك للدولة – فإن كان ذهب أو فضة فهو لك، إن كانت هذه الآثار ظاهرة التجسيم لأشخاص فعليك بطمس معالمها.

التأريخ العربي التقليدي وإعادة سرد مصر القديمة

المؤرخون العرب في القرون الوسطى، مثل وابن كثير، أعادوا تقديم بعض قصص الحضارة المصرية ضمن إطار ديني وأسطوري: إدخال السرديات الأسطورية مثل الطوفان أو أفكار عن الملائكة أو الكائنات السماوية ضمن وصف الحضارة المصرية، كأن التاريخ المصري هو مجرد فصل من القصة الدينية الكبرى، وليس حضارة قائمة بذاتها.

هؤلاء المؤرخون أسسوا في ذهن القارئ العربي عبر العصور رؤية “دنيوية‑أخلاقية” لمصر القديمة، أكثر منها رؤية علمية أو حضارية. فلا عجب بعد ذلك أن يكون فرعون الخروج هو: “الوليد بن مصعب بن أراهون بن الهلوت بن قاران بن عمرو بن عمليق”

وكان فرعون مصر في أيامه قابوس بن مصعب بن معاوية صاحب يوسف الثاني، وكانت امرأته آسية ابنة مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد فرعون يوسف الأول، فلما نودي موسى أعلم أن قابوس بن مصعب قد مات وقام أخوه الوليد ابن مصعب مكانه وكان أعتى من قابوس وأكفر. [1]

(تاريخ ، الجزء الاول)

فاضل الربيعي وإعادة التوطين

من بين فلتات القرن العشرين، فاضل الربيعي وهو يُعد من الأصوات التي حاولت إعادة تأويل الحضارة المصرية ضمن رؤية عربية/ قومية: يرى أن المصريين القدماء لهم ارتباط باليمن، وأن بعض الأسماء أو الشخصيات “مصرية قديمة” يمكن تفسيرها على أنها يمنية، مما يربط الحضارة المصرية بجذور عربية في شبه الجزيرة.

ومن شطحاته اللطيفة القائمة على مقاربات لغوية ساذجة للغاية: يرى الربيعي أن “مصر” المذكورة في ال ليست دولة مصر الواقعة على النيل، بل هي مدينة أو منطقة محصنة في اليمن، حيث أن كلمة “مصر” في اللغات السامية الجنوبية تعني “المدينة المحصنة” أو “الحضر”.

الكاروبيم (الكروبيم)

هذه إحدى طرائفه اللغوية الأكثر لفتا للانتباه. فبدلا من كونهم ملائكة مجنحة، يفسرهم الربيعي على أنهم محاربون من قبيلة يمنية قديمة هي “كندة”، التي كانت تعرف في النقوش اليمنية باسم “كرب” أو “أكرب”، بمعنى “الملك” أو “المحارب الشريف”. بالتالي، فهم حراس نبول من البشر وليس مخلوقات روحانية.

“فرعون” هو لقب يمني

يذهب الربيعي إلى أن لقب “فرعون” لم يكن حكرا على حكام وادي النيل، بل هو مشتق من الجذر السامي “ف ر ع” (البيت الكبير) وكان مستخدمًا أيضا في جنوب الجزيرة العربية لحكام أو كهنة يمنيين.

“سِينَا” في اليمن

جبل سيناء أو حوريب ليس في شبه جزيرة سيناء المصرية، بل هو مرتبط إما بإله قمري كان يعبد في جنوب الجزيرة العربية أو بمنطقة “سنو” في اليمن.

كمال الصليبي وإعادة توطين الحضارة المصرية

، المؤرخ العربي المعاصر، لديه رؤى تأويلية تعيد تفسير الحضارة المصرية القديمة ضمن هُوية عربية: في بعض مؤلفاته أو مقاربته الفكرية، يقترح أن بعض المواقع أو المعابد ذات أصول تاريخية يمكن النظر إليها من منظور “العروبة التاريخية”، وليس فقط من منظور مصري محض.

يرى أن الثقافة المصرية القديمة يمكن أن تُقرأ على أنها امتداد عربي‑ شبه جزيرة العرب، باستناد إلى تشابهات لغوية أو رمزية، وهو تأويل مثير لكنه لا يدعمّه دومًا دليل أثري واضح. هذه الرؤية تمثل في نظره مشروعًا لإعادة بناء الهوية العربية من خلال تراث عريق، لكن من الناحية الأكاديمية يشوبه خطر كبير: إذ إعادة كتابة الحضارة لتلائم الهوية العربية قد تفقد الدقة التاريخية وتخضع للسياسة أكثر من العلم.

نقد التأويلات العربية الإسلامية

هذه التأويلات التي يقدمها الربيعي والصليبي، وأولئك الذين يستندون إلى النصوص الدينية لإعادة بناء تاريخ مصر، تعاني من عدة مشاكل منهجية:

  • غياب الأدلة الأثرية واللغوية
  • تأويلاتهم غالبا تعتمد على التشابه اللغوي أو الرمزي دون مراجعة للنقوش المصرية القديمة أو البرديات التي تثبت هوية مصرية فريدة.
  • لا توجد دراسات أثرية حديثة تثبت أن الأهرامات أو المعابد أو الفراعنة ينتمون إلى هوية عربية أو يمنيّة في الأصل.
  • توظيف الهوية بدلًا من الحقائق

التأويل القومي أو الديني قد يُستخدم لتحويل التاريخ إلى أداة بناء هوية. هذه الرؤية تماثل إلى حد كبير محاولات أخرى لاختطاف تاريخ مصر (مثل التيارات الأفروسنترك أو التوراتية)، لكنها في هذه الحالة لخدمة الهوية العربية بدلًا من هدف ديني توراتي، مستخدمة التوراة ولكن من منظور إسلامي.

الإهمال للقرائن الحديثة

تجاهل نتائج الراديوغرافيا الميونية التي توضح بنية الأهرامات بشكل مادي، وليس كمجرد رموز نبوية.

غياب الاستدلال باستخدام تحليل الحمض النووي القديم (Ancient DNA) الذي يدعم أصل السكان المصريين القدماء من داخل مصر، وليس كامتداد عربي أو يمني.

مقارنة مع السرديات الزائفة الأخرى

كما وقفنا ضد الاتجاهات الفكرية التي تسلب مصر حضارتها لصالح الأفروسنترك، حيث يُحول التراث المصري إلى ملحق عرقي أسود. ينبغي المثل مع السردية التوراتية/: حيث يُحول التاريخ المصري إلى خلفية للمسيحية أو النبوة اليهودية. كذلك يجب معارضة هذا النوع من السردية العربية/ الإسلامية التي تعيد كتابة مصر القديمة لتصبح جزءًا من مشروع قومي ديني أو تأويلي، تحت ذريعة الهوية العربية أو الربط بشبه الجزيرة.

علم المصريات كضمانة لهوية مصر

العلم الحقيقي  -الأثري، الوثائقي، اللغوي- هو الحامي الوحيد لهوية مصر الحضارية.

إعادة كتابة التاريخ لتلبية المشروع القومي أو الديني تخاطر بتحويل الحضارة إلى أداة أيديولوجية.

يجب علينا كعلماء وباحثين أو مهتمين بالتاريخ ، وقضية الهوية بغير احتيال أو مخاتلة، أن نرفض التأويلات التي تفتقر إلى أدلة، وأن نعتمد دائمًا على حقائق ميدانية وبيانات علمية لمحاربة أي اختطاف للتاريخ، سواء من داخل أو خارج العالم العربي.

‎ ‎ هوامش ومصادر: ‎ ‎
  1. تاريخ الطبري، الجزء الاول، ص. 271 [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي 3 حسب تقييمات 4 من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

ارنست وليم
[ + مقالات ]
‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎