لم يعد الجدل الأوروبي حول الهجرة والاندماج مجرد سجال فكري أو نقاش حقوقي بارد. ما يجري اليوم في بريطانيا ثم في أوروبا كلها هو لحظة مراجعة تاريخية، قد تحدد شكل المجتمعات الغربية لعقود مقبلة. اليسار الذي بنى مجده على الدفاع عن المهمشين وفتح أبواب الحقوق للجميع، وجد نفسه في مفترق طرق:
كيف يحمي الأقليات دون أن يجعلها تعيش خارج المجتمع؟
وكيف يرفض التمييز دون أن يتحول إلى أداة تبرير لثقافات فرعية تفرض العزلة وترفض الاندماج وتعيش بمباركة الدولة جيتوهات اختيارية على هامش الدولة؟
الإسلاموفوبيا
هذا المصطلح لم يولد من قواميس الحقوق المدنية، بل من عقل سياسي إسلامي أراد وضع الإسلام كعقيدة تحت مظلة “المقدس غير القابل للنقد”، ولكي يمرر هذه الفكرة القرن أوسطية صاغها في شكل حقوقي، ولكن المصطلح نفسه فيه الإسلام لا المسلم، الدين وليس الإنسان، وكأنها أيضًا، من باب التبرير و”التصويغ” جعلها على نمط “ضد السامية” وموازية لها، فكما كان هاجس، أو رعب، الغرب لعقود من تهمة “معاداة السامية”، يريد اليوم أن نعيش رعب وذنب آخر “الإسلاموفوبيا”، فأصبح أي نقد لظواهر اجتماعية داخل الجاليات المسلمة يُعاد تعريفه فورًا كخوف مرضي، عداء عنصري! بينما القيم الديمقراطية أساسها النقد والتفكيك والمحاسبة.
والمفارقة أن اليسار – وهو تيار نقد جذري بطبيعته – ابتلع هذه الفكرة بلا مقاومة، وكأنه يسلم وعيه لمن يستثمر لغة حقوق الإنسان لحماية أيديولوجيَا لا تخضع للتمحيص.
بريطانيا: الحقوق تبتلع روح المجتمع
بريطانيا من أكثر الدول التي دفعت ثمن الهجرة غير المنضبطة. لم يتغير فقط شكل الشوارع والمدارس والفضاء العام، بل تغير نمط العيش نفسه. منطقة وراء منطقة صارت تخضع لقوانين اجتماعية موازية: نساء محجبات إجبارًا لا قناعة، تعليم ديني منفصل، مساءلة اجتماعية صارمة، لغة مختلفة، اقتصاد إعانات بدل اقتصاد إنتاج. المجتمع لم يعد واحدًا… بل مجتمعات متجاورة فقدت التواصل أحيانا فيما بينها.
ومع ذلك، ظل اليسار العمالي في بريطانيا يدافع تلقائيًا عن الحجاب بوصفه حقا فرديًا، دون السؤال عن كم من النساء لا يملكن حق خلعه؟ ودون النظر إلى من يُرهب داخل بيته أو حيه، ومن يُحرم من الاندماج بحجة “الهُوِيَّة” المغايرة، أو الخصوصية الثقافية.
وهنا تبرز شخصية لافتة: شبانة محمود
…
وجه قد يعيد اليسار إلى رشده
شبانة محمود (Shabana Mahmood)، سياسية بريطانية من أصول مسلمة، محامية، قيادية في حزب العمال، وواحدة من النماذج النادرة التي لا تتحدث بلغة الدفاع الأوتوماتيكي عن الأقليات، بل بلغة تفكيك ما يحدث داخل الأقليات نفسها.
ترى شبانة أن حماية المسلمين لا تُبنى على غض الطرف عن التطرف الأسري والديني، ولا على ضخ الإعانات بلا شروط اندماج، بل على جعل المسلم مواطنًا كاملًا لا زائرًا دائمًا يعيش على هامش البلد.
هي تعرف التجربة من داخلها، تعرف ثقافة الحي، تعرف من يُجبر زوجته وبناته على الحجاب ويمنعهن من الاندماج، تعرف من يرى الغرب دار كفر يستغل قوانينها في حين يحتقر قيمها. لذلك صوتها ليس ضد المسلمين بل من أجلهم وضد من يحتكر الحديث باسمهم.
من قلب الجحيم يتولد الوعي
ما يحدث في إيران اليوم على شاكلة النساء اللاتي يخلعن الحجاب في الشوارع، نسبة الملحدين التي ترتفع، جيل كامل يتململ تحت ثقل الثيوقراطية، يشبه شرارة تأتي من المركز الأكثر تشددًا. فالنظام الإيراني ودولة الملالي ساقطة لا محالة لتعود إيران دولة محترمة من جديد بفضل روح جديدة من قلبها النابض، ومن روحها المتمردة، المنتظرة اللحظة المؤاتية. من قلب التطرف يظهر التحرر. من الجحيم يأتي الطريق إلى الخلاص.
وفي المقابل، أوروبا التي استقبلت الهاربين من ذلك الجحيم تمنح – دون قصد – تربة خصبة لثقافة موازية تعيد إنتاج ما هرب منه الناس أصلًا.
إذا كانت إيران تتغير من الداخل، فهل يمكن أن تأتي صحوة اليسار الأوروبي من بريطانيا؟ البلد الذي عرف الخسارة الأكبر، وبدأ يسأل سؤال تأخر كثيرًا:
كيف نكون إنسانيين دون أن نكون سذجا؟
كيف نحمي حقوق الفرد دون أن نكسر بنية المجتمع؟
كيف نمنح اللجوء دون أن نمنح امتيازًا لرفض الاندماج؟
بداية التحول
إذا نجحت بريطانيا في إعادة تعريف اليسار ليصبح يسارًا واقعيًا لا رومانسيًا، يسار حقوق ومسؤوليات لا حقوق فقط، فإن أوروبا كلها قد تتغير.
بوادر ذلك تظهر بالفعل: أصوات جديدة، مراجعات قانونية، خوف شعبي من الانغلاق الإسلامي يقابله خوف آخر من صعود الفاشية كرد فعل. الطريق ضيق بين تطرفين… لكن الفرصة موجودة.
قد يكون الحل في يسار لا يخجل من النقد،
وفي يمين لا يحتقر الإنسان،
وفي وسط يعيد للجسد توازنه قبل أن تمزقه الأيدي المتعاكسة بين تطرف يميني فاشي ويساري منحل.
بريطانيا بدأت تفتح العين، وإن استفاقت أوروبا كلها، لن يكون ذلك خصمًا من حقوق المسلم، الذي يجب تعريفه كإنسان قبل كونه مسلم، بشرط أن يعتقد هو نفسه في أنه إنسان يتعامل مع بشر قبل أن يكون مسلم في مجتمع كفار. هي لصالحه كانسان ولصالح المجتمع الذي يحتضنه.
