لم يكن إسحاق نيوتن مجرد العالم الذي اكتشف الجاذبية ووضع قوانين الحركة، بل كان أيضًا باحثًا غريب الأطوار في الأسرار الغيبية والنبوءات، مهووسًا بالكتاب المقدس ومقاييس الأهرامات المصرية.
رأى نيوتن أن الكتاب المقدس والطبيعة نصّان صادران عن الله، وأنه يمكن تحويل النبوءات إلى معادلات زمنية باستخدام وحدات قياس مُستوحاة من الهرم الأكبر والمعابد المصرية، وربطها بالهيكل المنسوب إلى النبي سليمان.
اللاهوت التدبيري ورفض الثالوث
ما يُميِّز نيوتن اللاهوتي هو موقفه الجريء من العقائد المسيحية التقليدية؛ إذ لم يكن يؤمن بالثالوث، وأعتبر أن فكرة الابن والروح القدس أُضيفت لاحقًا من قِبل الكنيسة لتفسير النصوص حسب مصالحها. هذا الانحراف عن التقليد جعله يبحث عن منهج آخر لفهم التاريخ الإلهي.
رحلته الإيمانية تلك جعلته متأثرًا بفكر ما يُعرف باللاهوت التدبيري، الذي يرى أن الله يدير التاريخ بدقة، وأن الأحداث الكبرى جزء من خطة إلهية ثابتة.
ويمكن رصد هذا النمط الفكري في أعمال ثلاثة من كبار اللاهوتيين الذين سبقوه:
- چون أوين (John Owen) [1616‑1683]: لاهوتي إصلاحي إنجليزي، ركز على نعمة الله المطلقة، والسيطرة الإلهية على الحياة والتاريخ. وقد شكّل أسلوبه في تفسير الأحداث كتدبير إلهي الخلفية الفكرية التي وجد فيها نيوتن إطارًا لفهم التاريخ الإلهي.
- فاوستو پاولو سوتسيني (Fausto Sozzini) [1539‑1604]: مؤسس السوسينيانية، رفض الثالوث وأعتبر أن المسيح لم يكن إلهًا قبل التجسد. وقد أعطت فكرته حول القراءة النقدية للنصوص المقدسة ورفض العقائد التقليدية نيوتن نموذجًا للتفكير خارج النصوص التثليثية التقليدية.
- ويليام پيركنز (William Perkins) [1558‑1602]: لاهوتي بيوريتاني إنجليزي، ركز على فكرة التدبير الإلهي في التاريخ، وأكد أن الأحداث الكبرى ليست مصادفات بل جزء من خطة الله.
بهذا، أصبح نيوتن حلقة وصل بين التيارات اللاهوتية السابقة والتيارات اللاحقة التي طورت مفهوم الصهيونية المسيحية والتدبير الإلهي عند چون نيلسون داربي، المتوفى عام 1882 [1]. وأهم من نشر هذا الفكر هو سايروس إنجرسون سكوفيلد [2] في طبعته للكتاب المقدس للملك جيمس بحواشٍ تعكس لاهوت داربي، التي هي المرجع الأكبر للصهيونية المسيحية في تفسير الأحداث وربط النصوص المقدسة بالواقع الزمني، منذ ظهورها في طبعتها الأولى عام 1890 [3].
قراءة الكون بقراءة الكتاب المقدس
آمن نيوتن أن النصوص المقدسة والطبيعة مكتوبتان بلغة واحدة: لغة الله.
وبهذا المنطق، رأى أن دراسة الوحي لا تقل علمية عن دراسة الكواكب.
فأخذ نصوص سفر دانيال وسفر الرؤيا، وبدأ يحول النبوءات إلى معادلات زمنية، مستخدمًا الرموز الرقمية كبيانات يمكن تحليلها كما يحلل الفيزيائي حركة الأجرام.
مصر القديمة: الوحي الموازي
لم يكن انشغال نيوتن بمصر القديمة مجرد فضول أثري. فقد أعتبر الهرم الأكبر بمثابة “كتاب حجري” يحتوي على رموز الخلق والزمن الإلهي.
ربط نيوتن بين مقاييس الهرم ووحدات الطول الواردة في التوراة، ورأى أنها تعكس النظام نفسه الذي استخدمه سليمان في بناء هيكله، موضحًا أن المقاييس والزوايا والنسب لها معنى رمزي مرتبط بالدورات الزمنية للنبوءات.
وبهذه الطريقة، رأى نيوتن جسرًا بين الحضارة المصرية المبكرة والعهد التوراتي، حيث يمكن فك رموز النبوءات وحساب مواعيدها بدقة.
الهرم ونبوءات نهاية العالم
طبق نيوتن مقياسات الهرم على أرقام سفر دانيال، وحسب منها مواعيد الأحداث الكبرى، ليصل إلى عام 2060 كنهاية للنظام البشري الحالي وبداية مرحلة إلهية جديدة [4]
بالنسبة له، لم تكن هذه نبوءة روحية فحسب، بل استنتاج علمي مبني على معايير هندسية ورموز مصرية وأرقام توراتية.
وكما تحكم الجاذبية حركة الأجرام، تتحكم النبوءة الإلهية في مسار التاريخ.
من الفيزياء إلى السحر
كلما تعمّق نيوتن في الربط بين النصوص والأرقام، اقترب أكثر من الغيب والخيمياء، ساعيًا لاكتشاف “جوهر الخلود” عبر التجارب الكيميائية على المعادن والزئبق.
هكذا تحوّل العالم الذي كشف قوانين الحركة إلى باحث في أسرار الخلق.
يقرأ في الحجر والرقم معاني الخلاص ويبحث عن النظام الإلهي في كل شيء.
الإيمان الحرفي والعلم
تكشف تجربة إسحاق نيوتن أن الخطر ليس في الإيمان نفسه، بل في تحويله إلى أداة لتفسير الطبيعة.
حين يصبح النص المقدس مرجعًا لكل الظواهر، يفقد العلم استقلاليته، ويصبح الباحث خاضعًا لعقيدة أكثر من كونه مكتشفًا للحقيقة.
الإيمان الذي ألهم نيوتن للبحث عن النظام في الكون، هو نفسه الذي دفعه لمحاولة إخضاع الكون للنبوءات، ذاب فيه الحد الفاصل بين الفيزيائي والكاهن، وبين معادلة الجاذبية وطلاسم النبوءة.
إرث نيوتن المزدوج
يترك إسحاق نيوتن إرثًا مزدوجًا: العقل العلمي الذي غير فهمنا للكون، والخرافة اللاهوتية التي تذكرنا بخطر المزج بين الإيمان الحرفي والعقل التجريبي.
قصته تحذير صارخ للعلماء والمفكرين: حتى أعظم العقول يمكن أن تنزلق إذا حاولت مزج الإيمان المطلق بالنقد العلمي، فتصبح النصوص المقدسة مرجعًا لكل شيء، ويضيع الحد الفاصل بين الاكتشاف والتحليل والتنجيم.
الصورة المرفقة مع بورتريه لنيوتن هي من أوراق نيوتن، تُظهر ملاحظات، بخط يده، تتضمن حسابات هندسية لوحدات القياس المصرية القديمة، مثل “الذراع الملكي”، وربطها بأبعاد الهرم.
