على مر التاريخ، كانت الحضارة المصرية القديمة هدفًا لكثير من الأساطير والقراءات الة التي سعت إلى نسب إنجازاتها لغير المصريين. ومن أبرز تلك المزاعم التي راجت في القرنين التاسع عشر والعشرين، الادعاء بأن اليهود هم بناة الأهرام أو أصحاب الفضل في الحضارة المصرية القديمة. هذا الطرح لم يأتِ من داخل الدوائر العلمية الجادة، بل نشأ في سياقات دينية ولاهوتية وأيديولوجية حملت خلفيات سياسية وثقافية محددة.

هل بنى اليهود الأهرامات؟

الجذور التاريخية للفكرة

ظهر هذا الادعاء بوضوح في القرن التاسع عشر مع صعود الاهتمام بالتاريخ التوراتي ومحاولات قراءته بوصفه سجلًا تاريخيًا حرفيًا. فمع تزايد الحفريات في مصر بعد حملة ، بدأ عدد من اللاهوتيين الغربيين، خصوصًا من التيار الي، يبحثون في آثار مصر القديمة عن دلائل تؤكد القصص التوراتية.

من بين هؤلاء اللاهوتيين والمؤرخين الذين روجوا لفكرة أن بني إسرائيل شاركوا في بناء الأهرامات أو المدن الكبرى في مصر، شخصيات مثل چورچ ستانلي فابر [1]، وصموئيل شارب [2]، وألفرد چونسون [3]، الذين حاولوا دمج السرد التوراتي في تفسير تاريخ القديم.

كما لعبت بعض الأعمال الأدبية والسينمائية في القرنين التاسع عشر والعشرين دورًا في نشر هذا التصوّر، وإن بطرق رمزية أو شعبوية، مثل أفلام The Ten Commandments [الوصايا العشر] في نسختيه عامي 1923 و1956، وفيلم Prince of Egypt [أمير مصر] عام 1998، التي ربطت بشكل درامي بين العبودية التوراتية في مصر وبين بناء الصروح العظيمة، حتى وإن لم تذكر الأهرام بالاسم. ساهمت هذه الأعمال في ترسيخ الصورة الذهنية الغربية التي ترى أن عبقرية الحضارة المصرية اقترنت بوجود بني إسرائيل فيها.

الأهرام مخازن قمح بناها يوسف

إحدى أكثر الخرافات انتشارًا في هذا السياق هي الادعاء بأن النبي يوسف بنى الأهرامات لتكون “صوامع لتخزين القمح” خلال سنوات المجاعة. هذه الفكرة لم ترد في أي مصدر أثري أو تاريخي مصري أو توراتي، بل نشأت في أوروبا خلال القرن الثامن عشر في كتابات بعض الوعاظ المسيحيين الذين قرؤوا النص التوراتي عن “خطة يوسف لتخزين الحبوب” قراءة مادية حرفية.

The Great Pyramidوقد أعاد بعض القساوسة والمبشرين في القرن التاسع عشر مثل چون تايلور [4] في كتابه The Great Pyramid [: لماذا بُني؟ ومن بناه؟] نشر الفكرة بصورتها الأولية [5]، ثم تبعه المهندس تشارلز بياتزي سميث [6]، الفلكي الملكي الإسكتلندي، الذي أعتبر الأهرامات “كتابًا حجريًا للوحي الإلهي” وربطها بالنبوءات التوراتية [7].

هذه الأطروحات لاقت رواجًا بين التيارات الدينية التي كانت تبحث عن رموز مادية تؤكد صدق الكتاب المقدس، رغم رفض المجتمع العلمي لها رفضًا قاطعًا.

تيارات مسيحية تروج لهذه السردية

مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ظهر تيار المسيحية (Christian Zionism) الذي أعتبر أن عودة اليهود إلى فلسطين هي تحقيق لنبوءات الكتاب المقدس. هذا التيار رأى في التاريخ التوراتي أساسًا لتفسير التاريخ الإنساني كله، ما أدى إلى إعادة إنتاج تصورات تُمجّد الدور اليهودي في تاريخ البشرية.

بعض رموز هذا التيار مثل تشارلز تايز راسل [8]، مؤسس حركة “طلاب الكتاب المقدس” التي تطورت لاحقًا إلى جماعة “شهود ”، ربط بين الأهرامات والنصوص التوراتية، وأعتبرها عملًا “عبرانيًا بإلهام إلهي”، في إطار رؤية رمزية تهدف لإثبات أن الله ترك للبشر دلائل مادية على وعوده.

ورغم أن غالبية المفكرين اليهود لم يتبنوا هذه الرؤية، فإن بعض اليهود الذين انخرطوا في دوائر الصهيونية المسيحية أو في الحوارات اللاهوتية مع المسيحيين وجدوا أنفسهم ضمن هذا الخطاب الذي يعيد إنتاج الخرافة ذاتها.

في العصر الحديث، تتكرر هذه المزاعم أحيانًا في الإعلام أو الخطاب الشعبي، كما حدث عندما صرّح السياسي الأمريكي بين كارسون عام 2015 بأنه يؤمن بأن النبي يوسف بنى الأهرامات لتخزين الحبوب، وبين كارسون (Benjamin Solomon Carson) هذا ليس أي شخص بل كان مرشحًا للانتخابات التمهيدية لرئاسة الولايات المتحدة في عام 2016، وتصدر قائمة الجمهوريين الأكثر شعبية على مستوى البلاد لأكثر من مرة.

أيضًا بعض المواقع الدينية مثل The Israel Bible نشرت مقالات تتساءل عمّا إذا كان “اليهود بنوا الأهرامات”، في إطار سرديات تربط التاريخ اليهودي القديم بتاريخ مصر، دون أي أدلة علمية أو أثرية تدعم هذا الربط.

الموقف العلمي

جميع الدراسات الأثرية الجادة تؤكد أن الأهرامات بُنيت في عهد الدولة القديمة، أي قبل وجود بني إسرائيل في مصر بأكثر من ألف عام. كما أن النصوص المصرية نفسها توثق أسماء المهندسين والعمال المصريين الذين شاركوا في البناء، وتصف نظام العمل والتموين والطبابة بدقة.

لذلك فإن الادعاء بأن الأهرامات أو الحضارة المصرية هي من صنع اليهود لا يمت إلى العلم بصلة، بل يعكس نزعة أيديولوجية غربية سعت إلى دمج السرد الديني في التاريخ الإنساني، وأحيانا إلى محو أو تهميش الإبداع المصري الأصيل الذي أنشأ واحدة من أعظم حضارات العالم.

الخلاصة: إن ربط اليهود ببناء الأهرامات ليس سوى إسقاط أيديولوجي نشأ في ظل التنافس الديني والسياسي في أوروبا القرن التاسع عشر، ثم تبناه بعض تيارات الصهيونية المسيحية لتدعيم رواية “الاختيار الإلهي” و”العبقرية العبرية”. لكن أمام وضوح الأدلة الأثرية والتاريخية، تبقى هذه المزاعم مجرد خرافات، تكشف أكثر عن خيال من أطلقوها من أنها تشرح حقيقة الحضارة المصرية التي سبقت كل تلك السرديات بقرون طويلة.

    ‎ ‎ هوامش ومصادر: ‎ ‎
  1. چورچ ستانلي فابر George Stanley Faber: (١٧٧٣-١٨٥٤) عالم لاهوت أنجليكاني ومؤلفًا غزير الإنتاج. كان عالمًا في علم الأنماط، يعتقد أن جميع أساطير العالم نسخٌ مُحرَّفة من القصص الأصلية في الكتاب المقدس، ولكتاباته تأثير على التاريخانية والتدبيرية. [🡁]
  2. صموئيل شارب Samuel Sharpe: (١٨٠١-١٨٣٢) يُعرف أيضًا سام شارب، كان جامايكيًا مستعبدًا، وأصبح قائدًا لثورة العبيد واسعة النطاق خلال الحرب المعمدانية ١٨٣١-١٨٣٢ (المعروفة أيضًا باسم ثورة ) في جامايكا. أُعلن بطلًا قوميًا لجامايكا في ٣١ مارس ١٩٨٢ وصورته مطبوعة على ورقة نقدية جامايكية من فئة ٥٠ دولارًا. [🡁]
  3. ألفرد چونسون Alfred Johnson: أسقف متقاعد من الكنيسة الميثودية، وقد خدم من عام ١٩٩٦ إلى ٢٠٠٤، ثم تقاعد وتزوج من القسيسة شيري بوينز دوبس. [🡁]
  4. چون تايلور John Taylor: (١٧٨١-١٨٦٤)، قس ومُبشر اهتم بمختلف شؤون الآثار، نشر هذا العمل عام ١٨٥٩. وباستخدام القياسات التي أجراها عالم الآثار چون جريفز في القرن السابع عشر، والعلماء الفرنسيون الذين فحصوا الهرم الأكبر في الجيزة خلال حملة نابليون على مصر، استنتج وجود “بوصة هرمية” (أطول بقليل من البوصة البريطانية)، التي كانت تُعادل واحدًا على خمسة وعشرين مما يُسمى “الذراع المقدس”، وهي مُستمدة من ملاحظات فلكية وقياسات زمنية قديمة؛ وبصفته مسيحيًا مُؤمنًا، خلص إلى أن البوصة البريطانية مُلهمة إلهيًا. كان لعمله تأثير كبير، وحظي بمتابعة واسعة من عالم الفلك تشارلز بياتزي سميث. [🡁]
  5. John Taylor, The Great Pyramid: Why Was It Built? And Who Built It?, University Press [🡁]
  6. تشارلز بياتزي سميث Charles Piazzi Smyth: (١٨١٩-١٩٠٠) عالم فلك إيطالي بريطاني إسكتلندي اشتهر بالعديد من الابتكارات في علم الفلك. راسل عالم الأهرام چون تايلور وتأثر به ووضع تايلور نظرية مفادها أن الهرم الأكبر بُني تحت إشراف وتخطيط النبي نوح المذكور في الكتاب المقدس. [🡁]
  7. Charles Piazzi Smyth, Our Inheritance in the Great Pyramid, University of California [🡁]
  8. تشارلز تايز راسل Charles Taze Russell: قس أمريكي، فقد إيمانه في السادسة عشر من عمره، ثم عاد للإيمان نتيجة عظة سمعها في طائفة السبتيين، فأسس حركة لدراسة الكتاب المقدس تطورت لاحقًا إلى جماعة شهود يهوه. [🡁]

كيف تقيّم هذا المقال؟

← إتجاه ← التقييم ← اﻷعلى ←

المتوسط الحالي 0 حسب تقييمات 0 من القراء

كن أوّل من يقيّم هذا المقال

بما أن المقال أعجبك..

ربما اﻷفضل مشاركته مع دوائرك كي يحظى بانتشار أوسع

من المحزن أن يكون تقييمك للمقال سلبيا

دعنا نعمل على تحسين ذلك

أخبرنا.. كيف يمكن تحسين المقال؟

ارنست وليم
[ + مقالات ]
‎ ‎ نحاول تخمين اهتمامك… ربما يهمك أن تقرأ أيضًا: ‎ ‎